عمرٌ للقراءة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كلما حانت مني التفاتة إلى أكوام الكتب المكدسة على جانبي سريري، فيما أعتبره مشاريع قراءة مؤجلة، تساءلت: من أين لي بكل هذا الوقت لقراءة كل هذه الكتب وغيرها مما أمر به على رفوف المكتبات، وما تقذف به المطابع كل يوم، في هذا الزمن سريع الوتيرة، متلاحق الأحداث، كثير المشاغل، قليل الفراغات؟ وهل تسمح فسحة العمر بالانتهاء من كل هذه المشاريع المؤجلة، وتلك التي تنتظر على رصيف العمر في محطاته التي تنتظرنا، ولا نعرف إن كنا سنصل إليها أم يتوقف القطار دونها؟

في الفصل الأخير من كتابه الممتع "تاريخ القراءة"، يقول الكاتب الأرجنتيني حامل الجنسية الكندية "ألبرتو مانغويل": في رواية همنغواي الرائعة "ثلوج على جبل كليمنغارو"، يتذكر بطل الرواية المحتضر جميع الحكايات التي لن يستطيع كتابتها.

كان يعرف على الأقل عشرين قصة جيدة من المنطقة لم يكتب واحدة منها.. لماذا؟ إنه يذكر البعض القليل، لكن القائمة كانت بالطبع دون نهاية. إن سلسلة الكتب التي لم نكتبها مثل سلسلة الكتب التي لم نقرأها، تمتد إلى أقصى زاوية من زوايا المكتبة التي لا نهاية لها. إننا نقف دوما في البداية؛ بداية المجلدات الأولى من حرف الألف.

في هذا الفصل الذي أطلق عليه الكاتب "الصفحة الأخيرة"، يستعرض "مانغويل" كتابه بطريقة مختلفة، حيث يتنقل بين فصوله وكأنه ليس كاتبه، قبل أن يخلص إلى القول إن "تاريخ القراءة" لا نهاية له في الواقع لحسن حظنا جميعا، فبعد الفصل الختامي، وقبل المراجع الدسمة المذكورة ترك الكاتب، ويقصد نفسه، بعض الصفحات الفارغة كي يدوّن القراء فيها ملاحظاتهم، وتسجيل أفكارهم عن موضوع القراءة، وتقييم بعض الأمور المنسية، وإضافة الاقتباسات الملائمة، وذكر الأحداث والشخوص.

ثم يضيف: هنا يكمن عزاء صغير؛ أتصور أنني أضع الكتاب على الطاولة جنب سريري، كي أستطيع أن أقول لنفسي اليوم أو غدا أو بعد غد إنه لم ينته.

لسنا وحدنا إذن، معشر القرّاء، الذين نضع الكتب على الطاولات جنب أسرّتنا، وإنما الكُتّاب أيضا يفعلون ذلك، ولسنا وحدنا الذين لدينا مشاريع قراءة مؤجلة، وإنما الكُتّاب أيضا لديهم مشاريع كتابة مؤجلة.

تبدو هذه النتيجة بلسما يخفف من القلق الذي نشعر به كلما نظرنا إلى أكوام الكتب المكدسة حول أسرّتنا، لكنه لا يخفف من شغف القراءة لدينا، ولا يحد من رغبتنا في التهام كل هذه الأكوام، والبحث عن أكوام أخرى نكدسها في مكتباتنا قبل أن تفيض لتستقر على جوانب أسرّتنا، حتى لو لم يسعفنا الوقت لقراءتها كلها.

في كثير من الأحيان يبدو الكتاب هدية تنقذ صاحبها من التفكير في شيء يهديه لإنسان عزيز عليه في مناسبة ما، مثل الرجوع من سفر بعيد، وأحيانا من غير مناسبة.

هنا تكمن الصعوبة في اختيار الكتاب المُهدى نفسه، وهي صعوبة لا تقل عن توفير الوقت من قبل الشخص المُهدى إليه الكتاب لقراءته، وإلا أصبحت الهدية غير ذات قيمة.

وهنا يصبح القول إننا نقرأ في أوقات الفراغ، أو حين لا نجد شيئا نفعله، خطيئة يجب أن نتطهر منها، لأن القراءة طقس يجب أن نمارسه، ونخصص له أوقاتا لا نسمح بالاقتراب منها مهما كانت المبررات.

يقولون إن نبي الله "نوح" عليه السلام، دفن كل الكتب التي كان يمتلكها في الأسابيع القليلة التي سبقت الطوفان، لأنه اعتقد أن وزنها الثقيل سوف يغرق السفينة، ولكن هل نبشوها بعد ذلك واستخدموها لتأسيس المكتبات البابلية الأولى يا ترى؟ هذا ما تمتم به بعضهم عشية السهرة التي تلت الطوفان.

الكهنة المصريون يؤكدون خلاف ذلك، ويقولون إن الطوفان أذاب تلك الكتب وأتلفها، لأنها كانت مصنوعة من التراب غير المطبوخ أو المشوي، وهكذا نسيت الكتب التي كان أبونا "آدم" عليه السلام قد كتبها بعد الهبوط من الجنة، ومنها كتاب "أسماء الأحياء" الذي هو عبارة عن إحصاء لكل ما يتحرك في جنة عدن من حيوانات وكائنات.

هذا ما يقوله "لوسيان بولاسترون" مؤلف "كتب تحترق.. تاريخ تدمير المكتبات"، الذي يمكن أن يكون واحدا من الهدايا الثمينة. ويؤكد "بولاسترون" أن ثمة من يكره الكتب بالقدر نفسه الذي نتكلم به نحن عن حبها وربما أكثر، فحرق المكتبات فعل يعود إلى أقدم العصور.

إذ ظهر مدمرو المكتبات بالتزامن مع ظهور الكتب نفسها، وظلوا يتوالدون مع تكاثر الكتب، فبقدر ما تزداد كمياتها يزداد السعي إلى تدميرها، وسواء اعتُبرِت المكتبة مخلة بالنظام، أو كانت رمز النظام، فهي دائما تتوسط الأزمات والمواجهات، لكنها في الغالب لا تعيش بعدها.. هكذا يقول "بولاسترون" في كتابه.

الحرق في حد ذاته فعل شنيع، وحين تكون المكتبات هي وقود النيران التي تلتهم الفكر الإنساني، يصبح الحرق أكثر بشاعة ووحشية. لهذا كان تدمير مكتبات كبيرة ومشهورة، مثل مكتبتي بغداد والإسكندرية، محل جدل كبير بين الناس والمؤرخين على مر العصور، ولهذا نتمنى أن تكون بداية إنشاء المكتبات الإلكترونية هي نهاية عصر حرق المكتبات وتدميرها.

أما مكتباتنا الصغيرة التي تضيق بمشاريع قراءاتنا المؤجلة وتنثرها حول أسرّتنا، فتطرح علينا السؤال الذي طالما حيرنا: تُرى.. هل يسمح الوقت بالانتهاء من كل مشاريع قراءاتنا المؤجلة هذه؟ والجواب: يبدو أننا لا نحتاج أوقاتا للقراءة، وإنما نحتاج أعمارا أخرى غير التي عشناها، كي ننتهي من كل مشاريع قراءاتنا المؤجلة هذه.. هنا تكمن المعضلة.

 

Email