لا مكان للكبار

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتكاثر الصراعات داخل الدولة المصرية إلى حد مدهش، بعضها طبيعي في مجتمع يحاول أن يغير جلده ويجدد شرايين نظامه العام: سياسياً واقتصادياً، بعد تكلس وجمود، دام ما يقرب من أربعين عاماً، وبعضها غير طبيعي كالصراع الذي دخلت فيه جماعة الإخوان لتقويض أركان الدولة بطريقة "يا نحكم البلد يا نحرقها".. وعلى الهوامش تتناثر صراعات جانبية، بين القديم المتشبث بامتيازاته وعالمه، والجديد الذي يعمل على بناء كيان مصري مختلف تماماً.

وفي وسط هذه المعارك انفجر صراع الأجيال، وهو صراع لا يخلو منه أي مجتمع بدرجة أو بأخرى، لكن صراع الأجيال في مصر بعد ثورة 25 يناير أخذ شكلاً حاداً وعنيفاً للغاية، وصار أقرب إلى إعلان حرب كلامية، أطلق فيها الشباب موجات متتالية من القذائف وصواريخ الإهانات على الأجيال القديمة، ووصفوهم بالخنوع والخضوع أمام السلطة، والضعف في مواجهتها، وأن هذه الأجيال هي جزء من سوء الأحوال التي وصلت إليها مصر.

بعدم تمردها وثورتها على نظام الرئيس حسني مبارك، وأن جيل الشباب هو الذي أنقذ مصر من براثن الاستبداد، وصنع ثورتها ودفع الثمن غالياً من حياته، في الوقت الذي كان الكبار يجلسون أمام شاشات التلفزيون يتفرجون على ما يجري في الميادين والشوارع، أو يقفون في شرفات المنازل يلوحون بالأعلام الوطنية متعاطفين مع ثورة الشباب.

وكتب الروائي علاء الأسواني عن جيل الكبار، وقال فيه أكثر مما قاله مالك في الخمر، فهم في رأيه إما "منسحقون أو فاسدون أو مهاجرون للخارج هاربون، وهو جيل منزوع الوعي السياسي، عاجز عن العمل الجماعي، لا يعرف من النضال سوى أكل العيش"، لكن "الشباب رفضوا أن يتواءموا مع الفساد ورفضوا الهجرة، وقرروا أن يغيروا الوطن بأيديهم، الشباب غاضبون وهم يستريبون في نوايا السلطة الحالية، فلنستمع إلى الشباب هذه المرة، فقد كانوا "دائماً على حق!"".

وقد لا نناقش صحة ما كتبه الأسواني، ولكننا نستدل به على المدى الذي وصل إليه الصراع بين الأجيال، ويبدو أن الأسواني قرر أن يدافع عن الشباب بعدما طالت اتهامات مشينة عدداً منهم بينهم بعض الأكثر شهرة، وأمسكت فيهم كما تمسك النار في الهشيم، وكان المجتمع المصري عموماً لم يرتح لهؤلاء بالتحديد منذ بدايات ثورة 25 يناير، إذ خلطوا بين الجراءة والوقاحة، بين الشجاعة والتهجم، بين الحماس والردح، وظهروا في الفضائيات وأسرفوا في استخدام عبارات أوجعت المصريين، وهم شعب محافظ له تقاليد من قديم الأزل في احترام النظام والسلطة وكبار السن، سواء كانت هذه التقاليد أمراً سلبياً أو إيجابياً، لكن هذا هو حالهم طول تاريخهم.

ثم خرجت دعوات من الشباب تطالب جيل الكبار بأن يهجروا خشبة المسرح العام، في كل الوظائف تقريباً، وينزووا في الظل وكفاهم ما صنعوا، وكان فيها قدر من الانفعال والثأر، لما تعرضت له أجيال متعاقبة من الشباب من العزل والإقصاء، فدُفِنت مواهب قادرة على العطاء في كل مجالات الحياة، دون أن ترفع رأسها للشمس وتنال فرصة المشاركة بفاعلية في بناء الوطن، حتى صارت مصر دولة على المعاش في العشرين سنة الأخيرة من حكم مبارك، فكل قياداتها من الطاعنين في السن، في المؤسسات الدستورية، وفي المصانع وشركات قطاع الأعمال، والهيئات والوزارات، وكان نصيب الشباب فيها ضئيلاً وهامشياً، أقرب لذر الرماد في العيون وإسكات الأصوات الغاضبة.

وأيضاً هي دعوات منطقية من الشباب، طالما يدغدغ مشاعرهم أديب شهير ويصفهم بأنهم "دائماً على حق" كما لو أنهم معصومون من الخطأ.

والسؤال؛ ما هو تشكيل هذه القوى الثورية المعصومة من الخطأ والتي يطالبنا علاء الأسواني بأن نستمع إليها؟ مبدئياً يُوجد في مصر عدد كبير من الحركات والائتلافات والقوى الثورية يصعب حصرها، وأغلبها يرفع شعار رفض الحكم العسكري والسعي لتغيير الوضع القائم، لا من أجل عودة الرئيس المعزول محمد مرسي، وإنما في محاولة "لاستعادة مَسار ثورة 25 يناير 2011"، كما تعلن على صفحات الفيسبوك والتويتر والفضائيات والكتابات الصحفية.

لكن الروائي علاء الأسواني يقصد بالقوى الثورية "جبهة الثوار" أو "تحالف طريق الثورة"، الذي يضمّ في صفوفه حركات "6 أبريل" و"شباب من أجل العدالة الثورية" و"مقاومة"، وغيرها. وهذه الجبهة ترى أن الوضع شديد الخطورة، ولا يحمل بصورته الحالية أي آمال مستقبلية، وأن الدولة البوليسية قد عادت من جديد لتلفيق القضايا والتضييق على الحريات وخنق ثورة 25 يناير، باسم مكافحة الإرهاب. وهذا ما لا تراه غالبية الشعب المصري، ويكاد يتطرف في المطالبة بإجراءات أكثر صرامة، تضمن عودة الهدوء والأمن إلى الشوارع والقضاء على العنف.

وطبعاً في حرب كلامية تستخدم فيها الألفاظ الثقيلة، تتراجع فرصة التفاهم بين الأجيال على مساحات سياسية مشتركة، أو الاتفاق المرحلي على "أفكار" مقبولة، حتى تعبر مصر المرحلة الانتقالية التي طالت جداً، وإن كانت هذه التيارات المتمركزة في القاهرة والإسكندرية وبعض عواصم المحافظات، لا تضم إلا نسبة محدودة من شباب مصر، لكنها النسبة الأعلى صوتاً وضوضاء.

Email