وداعاً سوريا التي نعرفها

ت + ت - الحجم الطبيعي

سواء توصل مؤتمر "جنيف-2" لحل الأزمة السورية أم لا، وسواء اتخذ مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة أو الدولتان الكبيرتان الراعيتان لمؤتمر جنيف، قرارات من شأنها إيقاف العنف والقصف والتدمير وسيل الدماء في سوريا أم لا..

وحتى لو تمت المصالحة بصيغة من الصيغ، وعاد الأمن والأمان وتدفقت الاستثمارات المالية وبدأت عجلة التنمية تسير، فإن سوريا لن تعود تلك التي نعرفها، كما لن تكون عربياً دولة فاعلة في التطور العربي، أو قادرة على إعادة البناء والوصول إلى معايير الدولة الحديثة.

واستئناف التنمية اللازمة وبناء المجتمع المتطور، واستعادة النسيج الاجتماعي المنسجم.. أي في الخلاصة، فقدت سوريا قدراتها وإمكانياتها الداخلية والعربية، وطبعاً الدولية، ولن تكون ذات دور أو تأثير جدي في المنطقة وفي العالم.

تسببت الأزمة السورية في إحداث شروخ عديدة في النسيج الاجتماعي السوري، أعادت المفاهيم السياسية والاجتماعية والأخلاقية إلى مفاهيم ما قبل الدولة. فقد تجذر النزوع الطائفي والغرائز الطائفية والإقليمية والإثنية، في أذهان السوريين ووعيهم.

ولم يعد المجتمع السوري كما كان قبل الأحداث، يملك شيئاً من الانسجام الاجتماعي والوطني والقومي، وشيئاً من التسامح والفهم المشترك والتعاطف والتعاون، بل تحول بشكل صريح وبدون مواربة، إلى مجتمع تمزقه مفاهيم متخلفة تهدد كيانه الموحد.

ولم تعد اللغة المشتركة والمصالح المشتركة والأهداف المشتركة والتاريخ المشترك والبنية الأخلاقية والقومية الواحدة، موجودة في هذا المجتمع، وكأنه أصبح مشكلاً من مجتمعات متناقضة لا يشبه أحدها الآخر ولا يفهمه.

من طرف آخر، تم تدمير الاقتصاد السوري تدميراً كاملاً تقريباً، فتوقفت المشاريع الزراعية عن الإنتاج، سواء بسبب قصفها أم بسبب عدم استطاعة أصحابها العمل فيها والإشراف عليها ورحيلهم خارجها..

وانهارت الصناعة بشكل واسع، سواء منها الصناعات التحويلية أم الإنتاجية (على قلتها)، أم الصناعات الاستخراجية كالفوسفات والنفط وغيرها، هذا إضافة إلى تراجع السياحة إلى نسبة تلامس نسبة الصفر من الدخل القومي، ومثلها النقل والترانزيت وغيرها من مصادر الناتج المحلي الإجمالي. وهكذا فقدت الدولة السورية مصادر دخلها، فقداناً تاماً أو شبه تام.

قُصف خلال ثلاث سنوات أكثر من مليون مسكن في سوريا، وتم تهجير ثلث السكان من مدنهم وقراهم، إلى مدن أخرى وقرى أخرى وإلى كل أصقاع الأرض، وعرف السوريون لأول مرة، منذ مجاعات القرن التاسع عشر، الفاقة والجوع والعوز، بل والتسول..

ولا شك أن عودتهم إلى مساكنهم وأعمالهم السابقة (كما كانت)، تحتاج إلى سنوات طويلة واستثمارات كبيرة مشكوك في قدومها، وجهود استثنائية وإدارة دولة حريصة على تطوير مجتمعها وبلدها.

لقد انهارت البنية التحتية، وانخفض مستوى الخدمات التي كانت موجودة، كالطرقات والمياه والكهرباء والمدارس والمشافي والخدمات الصحية عامة وخدمات النظافة والنقل وغيرها. وعادت سوريا إلى الوراء ربما أكثر من خمسين عاماً، بل قد يكون حالها في مجال الخدمات بُعيد الاستقلال أفضل مما هو عليه الآن.

هذا إضافة إلى ارتفاع نسبة الأمية في سوريا، نتيجة الأزمة ارتفاعاً كبيراً جداً، وتراجع مستويات الثقافة والتعليم، وتدهور القيم وغياب التقاليد الإيجابية المـأثورة عن الشعب السوري، الذي ربما تحتاج إعادة بنائه في المجال التعليمي والثقافي والفكري إلى أكثر من جيلين.

إنه لمن البديهي أن مواجهة سوريا للاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الخارجية، سواء هيمنة الدول القريبة أم البعيدة، قد تراجعت تراجعاً كبيراً جداً، وصار من الأمنيات التي يصعب تحقيقها توفر قدرة سوريا للوقوف في وجه إسرائيل أو السعي لاستعادة الأراضي السورية المحتلة بأي طريقة من الطرق.

ذلك أن الجيش السوري أصابه الإنهاك وتدهورت معنوياته وقدراته القتالية، بل دخلت في وعيه مفاهيم جديدة للعدو تبقيه داخل الحدود، وقد دمرت الحرب سلاحه وعقيدته القتالية، فغدت القوة السورية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، غير قادرة على الوقوف في وجه أي طامع، وما عادت أولويات السياسة السورية تتلخص في الصمود والتصدي.

كان الشعب السوري والمجتمع السوري منذ الاستقلال عن الدولة العثمانية، أي منذ حوالي مائة عام، يلهج دون تعب بالوحدة العربية والتحرر ومواجهة الاستعمار الأوروبي، واستكمال الاستقلال ومعاداة الصهيونية.

وقد تم استبدال هذه المفاهيم الآن بمفاهيم أخرى قطرية ومحلية، فلم يعد الاهتمام كبيراً بالوحدة العربية والقومية العربية، كما تغيرت في ثقافته مفاهيم الاستعمار والعولمة والحداثة، حتى أن شرائح كبيرة من المجتمع أصبحت تتمنى التدخل العسكري الأجنبي لحل الأزمة وإنهاء الحرب والصراعات المسلحة.

ولم يعد الموقف من إسرائيل يتصف بالعداء نفسه والحدة نفسها والصلابة نفسها التي كانت، كما تغيرت عميقاً وبشكل عام، المواقف السياسية والقومية لدى الشعب السوري والمجتمع السوري، ولم تعد بدورها كما كانت قبل الأزمة.

كائناً من كان المنتصر، فقد وقعت الخسارة في مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والقيمية والاقتصادية والخدماتية وفي كل مجال.

وكل ذلك بسبب عشق الفئة الحاكمة للسلطة والتشبث بها، وممارسة الاستبداد والفساد والتحكم والتسلط والصلف على الطريقة القروسطية، وإنكار حقوق الشعب ومطالبه بالحرية والكرامة والمساواة والمشاركة والعدالة ورفض الحوار، ومواجهة التظاهرات السلمية بالعنف والرصاص والقصف..

وأعتقد أن الفئة التي تحكم سوريا لا تهتم بالدمار الذي لحق بها، ولا تدرك أنها، إن انتصرت، فستحكم بلاداً مدمرة ركاماً فوق ركام وخراباً يباباً.

 

Email