الشخصية والبعد الثالث

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحياة مكتظة بأشخاص مختلفين، متباينين في التفكير، الدين، اللغة، والشكل الخارجي، وحتى في التفاصيل الدقيقة كطريقة المشي، أسلوب الكلام، طريقة نطق الأحرف، ولفظ الكلمات. هناك من يحمل ملامح هادئة، أسلوباً سلساً ومريحاً، ومسلكاً طيباً ومهذباً، وعلى النقيض نجد من يظهر ملامح القسوة والخشونة، وتصرفات تنم عن حدة الطباع والانفعال الفائض..

كما أن هناك أشخاصاً ذوي صفات متناغمة متجانسة ومترابطة، وآخرين يحملون مزيجاً من السمات المتضادة، كالقسوة تارة والليونة تارة أخرى، الشدة غالباً والمرونة أحياناً. نماذج كثيرة من الطبائع والصفات نصادفها بين حين وآخر، ونشرع في إرساء الحكم على تلك الشخصيات، ثم نحدد علاقاتنا الاجتماعية، وقد نرسم خطة التواصل أو درجة التقارب في المجالات الاجتماعية والمهنية والإرشادية أو الترفيهية وغيرها.

في الأغلب عند التعريف بشخص ما، نحدد محورين أساسيين، الأول يتعلق بالأوصاف الثابتة والظاهرة، كالبيانات العامة، الجنسية، الدين، العمر، المهنة، ومستواه الأكاديمي، وقد يحوي هذا المحور أيضاً الأوصاف الشكلية كالطول، الوزن، اللون وغيرها من التفاصيل الظاهرة والثابتة.

والمحور الثاني يتمثل بالملاحظات الاستنتاجية والديناميكية أو الانطباعات والسلوكات التي يتركها الفرد في برهة من الوقت أو فترة زمنية محددة، كأسلوب الشخص وحركاته ومشيته، وأقواله والطريقة التي يعبر بها عن آرائه وملاحظاته وبعض من صفاته العامة والخاصة، كما يتضمن عمله وميوله وأهدافه وهواياته وغيرها. وقد يمثل المحوران الأبعاد الأولية للشخص، حيث تمثل هذه الأبعاد الطبقة العلوية أو القناع الخارجي الذي يغلف المضمون الداخلي.

وهناك محور ثالث قد يُركن أحياناً أو يغفل، وهو البعد الثالث، فهو المحور الذي يحتوي الصفات الداخلية للإنسان، وقد يكون سافراً أو مستتراً، وقد يظهر في الأغلب بعد فترة من الزمن قد تصل إلى عدة سنوات، وقد يمثل اللب الحقيقي أو مضمون الشخص، حيث يتضمن الجيوب الإنسانية والعاطفية والخزائن الداخلية، التي تحوي الطاقات الإبداعية والفكرية، وقد يمثل السمات الحقيقية والذاتية التي تسكن داخل كل شخص، وتختلف أحجام تلك الجيوب والخزائن من شخص إلى آخر..

وقد تكون إيجابية أو سلبية، وتستدعى عند اللزوم أو في ظروف أو مواقف معينة، وأحياناً عند الفترات الحرجة أو المثيرة أو الصعبة، وقد تظهر على شكل موقف أو تعبير أو تعليق أو قرار أو خطة وغيرها. والبعدان الأولان يمثلان الطبقة العلوية أو القناع الخارجي الذي يغلف البعد الثالث، ومن الأجدر أن يؤخذ في الاعتبار المضمون الداخلي أحياناً، خصوصاً عند الاتصالات والتعاملات أو الروابط المتواصلة والمستمرة.

وهناك مواقف وأمثلة عديدة تقبع في ثنايا الروايات اليومية، تثير الذهول والدهشة وتفجر الحيرة المربكة، بسبب عدم تطابق المحاور التعريفية الشخصية، وخصوصاً عند عدم تطابق الأبعاد الأولية مع البعد الثالث، فعلى سبيل المثال، عندما يحبس شخص وسط مكائد وكمائن، وتنهب ثروته نتيجة سياسة سلبية رسمها وجه ظريف عذب الكلام، أو عندما تضيق الدنيا على شخص، ثم يذهل بعدما يرى أمامه زميلاً قديماً عارضاً عليه يد المساندة، بعدما فرقهما شجار عنيف دار بسبب سلوكه الخشن وحدة طباعه، أو عندما يذهب شخص لحدث مهم، ويفاجأ بصوت نجم لامع متميز يتحدث معه، ويحاول أن يتذكره، وإذا به ذاك السائق المنزوي الذي كان يعمل في متجر أحد أقاربه.

إن من مزايا الأبعاد التعريفية الأولية، سهولة القياس والحكم، فهي أوصاف ظاهرة وواضحة، إلا أن قياس حجم ومحتويات البعد الثالث يعتبر مسألة عسيرة وشائكة، وقد تكون إحدى وسائل القياس هي السيرة الذاتية للفرد، إلا أن السيرة الذاتية في حد ذاتها أحياناً يتخللها التشويش والتركيب، وقد يظل البعد الثالث لغزاً صعباً..

وقد يتطلب موهبة فذة لاختراق الغلاف الظاهري أو الأبعاد الأولية والتقاط مضمون ومحتويات الشخصية الداخلية والحقيقية للفرد. وتمثل الروابط الاجتماعية إحدى وسائل التحكم، وتلعب الصدف والمواقف والأزمات والطوارئ دوراً نشطاً في قياس أبعاد المحاور أو فك رموز لغز البعد الثالث.

وقد تتطابق المحاور والأبعاد التعريفية جميعها عند بعض الأشخاص وقد تختلف، إلا أن البعد الثالث من المحاور التعريفية الأساسية لشخصية الإنسان، يمكن تطوير عناصره بوسائل عديدة.

 

Email