ركائز السياسة الصينية في عصر العولمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ بداية مرحلة الانفتاح والإصلاح عام 1978، تبنت الصين استراتيجية جديدة تقوم على تعظيم القوة الناعمة لتطوير الإنتاج والقوى المنتجة، والدعوة إلى حل سلمي للمشكلات الإقليمية والدولية في عصر العولمة، لأن حربا عالمية تدمر الكرة الأرضية بمن عليها.

ومن خلال زيادة الإنتاج وارتفاع نسب النمو السنوي ما بين 7-10% لسنوات طويلة متتالية، احتلت الصين المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي منذ عام 2011، ثم أشارت تقارير علمية إلى أنها باتت القوة الاقتصادية الأولى في مطلع 2014.

وتخوفت دول إقليمية كثيرة، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، من صعود الصين الاقتصادي والعسكري. فعملت القيادة الصينية على طمأنة دول الجوار والعالم كله، وأكدت أن صعود الصين الاقتصادي لن يشكل تهديدا لأي دولة في العالم، كما أن قواها العسكرية المتنامية هي للدفاع عن حدود الصين المعترف بها دوليا، وعن مصالح الشعب الصيني الأساسية، وبالتالي لن تستخدم إلا تحت راية الأمم المتحدة، ولضمان السلم العالمي.

وقدمت الأنتلجنسيا الصينية سياسة القوة الناعمة في زمن الانفتاح والإصلاح، على أنها تتناقض جذريا مع استراتيجيات الدول الاستعمارية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فقد استعمرت تلك الدول غالبية الشعوب، ومنها الصين والهند ودول عدة أخرى في جنوب وشرق آسيا، فخضعت شعوبها للاحتلال الغربي في القرن التاسع عشر، ثم للإمبريالية اليابانية في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. واحتلت ألمانيا مساحات واسعة من أوروبا في مرحلة صعود النازية، وهيمن الاتحاد السوفيتي على غالبية دول القوقاز وأوروبا الشرقية. وفي المقابل، لم تستعمر الصين أي دولة في تاريخها الحديث والمعاصر.

وقد بنيت استراتيجية الصين الجديدة على مقولات نظرية هامة، أبرزها:

أولا: أن صعود الصين في المرحلة الراهنة قام على تعظيم الإنتاج الاقتصادي، دون السعي إلى نشر الإيديولوجيا السياسية الصينية أو استعمار شعوب أخرى. ويلعب الحزب الشيوعي الذي يزيد تعداده على ثمانين مليون عضو، الدور المركزي في حماية وحدة الصين الجغرافية والقومية، وهو نموذج يصعب تصوره خارج إطار دولة قوية مترامية الأطراف، تبلغ مساحتها تسعة ملايين وستمائة مليون كيلومتر مربع، ولديها كثافة سكانية باتت تقارب المليار وثلاثمائة وخمسين مليون صيني، موزعين على ست وخمسين قومية.

ثانيا: أعلنت الصين مرارا رفضها للحلول العسكرية في زمن العولمة وتداخل المصالح بين الدول على المستوى الكوني، وطمأنت العالم إلى أنها لن تستخدم النمو الاقتصادي لتحقيق أهداف عسكرية توسعية والسيطرة على الدول الأخرى، بل لتعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية مع جميع الدول والشعوب، بهدف تحقيق المنفعة المتبادلة للجانبين. ونجحت فعلاً في فتح آفاق جديدة مع جميع دول العالم، لضمان نموها الاقتصادي في الداخل وبالتعاون مع جميع دول العالم.

ثالثا: تكرر الصين في وثائقها الرسمية مفاهيم الحل السلمي، والسلام العالمي، والاستقرار الداخلي، والعيش المشترك، والمنفعة المتبادلة، والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة. وتخلت عن استعمال المصطلحات الغربية التي تشير إلى الهيمنة، والتسلط، والاستعمار الجديد، والإمبريالية، وغيرها. وبشرت بمرحلة جديدة في تاريخ الصين والعالم، تنبني على تحقيق الانسجام بين مكونات الشعب الصيني الداخلية، وضمان المصلحة المشتركة للشعب الصيني مع مصالح الشعوب الأخرى، ورفض كل أشكال الاستغلال والتبعية والاستيلاب.

وترفض الحلول العسكرية، وسباق التسلح، وتوازن الرعب بين قوى عسكرية متناحرة تهدد السلام العالمي. وتشدد على بناء الثقة بين قوى دولية مختلفة، لتتعايش معا بسلام في عالم متعدد الأقطاب يسعى لإقامة عولمة أكثر إنسانية.

رابعا: تدعو الصين إلى بذل جهود دولية مشتركة لمواجهة تحديات العولمة التي تعيش اليوم أزمات عالمية في مجالات عدة، منها قضايا البيئة، والتنمية، والتصحر، والاحتباس الحراري، ونقص الغذاء، ومواجهة كوارث الطبيعة، والخلل الحاد على مستوى توزيع الدخل، والفقر، والإرهاب، والأمراض المستعصية والسريعة الانتقال، والتوترات الأمنية في مناطق عدة من العالم خاصة في منطقة الشرق الأوسط،.

وتطالب بتضافر الجهود العالمية المشتركة لمواجهة تلك التحديات، وفق برامج علمية مدروسة تعدها الأمم المتحدة، وتستخدم فيها التكنولوجيا الحديثة والمتطورة جدا، لحل تلك المشكلات ومنع تحولها إلى أزمات مزمنة تصعب مواجهتها محليا، خاصة مشكلات الإرهاب الدولي، والتمييز العنصري، والتطهير العرقي، والنزاعات الطائفية الدموية التي اتخذت منحى خطيرا يهدد بإبادة أقليات بأكملها، في ظروف العجز الدولي عن مواجهة الإرهاب والتعصب الديني.

خامسا: ما زالت الصين تصنف نفسها دولة نامية كبيرة، تمتلك قدرات اقتصادية وعسكرية تؤهلها للعب دور مركزي في النظام العالمي الجديد، لكنها ترفض استخدام قواها الذاتية لفرض هيمنتها على الدول الأخرى، أو للسيطرة على قرارات المنظمات الدولية على غرار ما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية. وتطالب الصين بدعم وتطوير منظمة الأمم المتحدة وباقي المنظمات الدولية، لكي تحافظ على استقلاليتها وحيادها التام، بحيث لا تفقد مصداقيتها حين تكيل بمكيالين في ظل هيمنة قطب أوحد. وتعلق آمالاً كبيرة على تطوير المنظمات الدولية وإعطائها الصلاحيات التامة لحل المشكلات الدولية بالطرق السلمية، ورفض الحلول العسكرية التي تهدد السلام العالمي.

ختاما، تواصل الصين بناء علاقات ودية مع جميع دول العالم، وتتمسك بسياسة الحلول السلمية للمشكلات الدولية المزمنة سياسيا، والاستفادة القصوى من القوة الناعمة لنجاح الحلول الاقتصادية.

وتتبنى سياسة النفع المتبادل بين الدول، وتعزيز التعاون الإيجابي بين الشعوب على مختلف الصعد. وبعد أن أصبحت في موقع عالمي متقدم، باتت مطالبة بلعب دور أساسي في الدفاع عن مصالح الشعوب المضطهدة وتطوير الطاقات الإنتاجية في الدول النامية، وفي طليعتها الدول العربية والإفريقية، ومساعدتها على حل مشكلاتها المزمنة التي أفضت إلى حروب أهلية لا حصر لها.

وبعد أن نجحت الصين في تجاوز المقولات الأيديولوجية المتشددة، وتبنت مقولات الانفتاح السياسي والاقتصادي، والإصلاح الإداري، ومحاربة الفساد والإفساد، واحترام الثقافات المختلفة، ومبادئ المساواة وتكافؤ الفرص، والتواصل مع الآخر، وتبادل الخبرات، وغيرها.. بات نموذج التنمية الصينية في متناول الباحثين العرب لاستخلاص الدروس المستفادة منه، بعد أن أثبت صدقية عالية في حل مشكلات الصين الداخلية والحفاظ على نسب نمو عالية، وبناء مجتمع المعرفة، ونشر العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة، لمواجهة تحديات العولمة.

Email