تراجع حزب العدالة والتنمية التركي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقيت تركيا حوالي سبعين عاماً ونيفاً تحت سلطة الأتاتوركية، نسبة لمصطفى كمال أتاتورك، الضابط التركي، الذي وقف في وجه غزو تركيا بعد الحرب العالمية الأولى مطلع عشرينيات القرن الماضي، ثم حكمها وأراد تحديثها، وإخراجها من تحت هيمنة السلطنة العثمانية، فألغى الخلافة، وغير أحرف الكتابة من العربية إلى اللاتينية، وأعلن "علمانية الدولة"، وأسس حزباً "علمانياً"، وأخذ يصدر القوانين، التي تقرب البلاد من قوانين أوروبا.

وقد ورث العسكريون نظام الحكم بعد أتاتورك، وتورطوا في سلسلة من الانقلابات، وتحولت "العلمانية"، إلى دكتاتورية معادية للدين، ودخلت تركيا شريكاً في حلف شمال الأطلسي، وشهدت تدهوراً اقتصادياً، صار مضرب المثل، ولامس التضخم نسباً كبيرة، تكاد تكون أسطورية، وتدنى مستوى عيش الأتراك، وارتفعت نسبة البطالة.

وفي الخلاصة ضعفت السلطة وأضاع النظام السياسي أهدافه وفقد استراتيجيته، وصار عبئاً على البلاد والشعب وعلى الدولة نفسها، وبرزت الحاجة ملحة لنظام بديل، فحاول الإسلاميون بقيادة نجم الدين أربكان، وبالتعاون مع الليبراليين بقيادة تانسو شيلر، أن يحلوا محل الحكم العسكري، إلا أن التيارين فشلا، منفردين ومجتمعين، أمام ضغط العسكر من جهة.

وضخامة الصعوبات التي تواجهها البلاد من جهة أخرى، وفشلت تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي طلب منها حل "38 مشكلة"، تواجهها حتى تنسجم مع التطور الأوروبي، منها مشكلات الأقليات، والعشوائيات، وتجديد البنية التحتية، وتطوير القوانين، وإلغاء حكم الإعدام وغيرها.

لم تكن الشروط الأوروبية في الواقع بريئة، فقد كانت أوروبا، وما زالت تخشى من دخول تركيا إلى المنظومة الأوروبية، وسكانها أكثر من 70 مليون مسلم، وغرق النظام التركي في معضلات ومصاعب داخلية وخارجية عديدة.

وكان ذلك كله مدعاة لتغيير نوعي في سياسة تركيا، ينقذها ويخفف من أعباء حلفائها، فجاء حكم حزب العدالة والتنمية بناء على استراتيجية جديدة لتركيا، غيّرت طريقها ووجهها وهويتها.

نجح حزب العدالة والتنمية في تحقيق الاستقرار لتركيا، وعدَّل المسيرة الاقتصادية، وبدأ بحل المعضلات الأساسية، فسار شوطاً في حل المشكلة الكردية، ومشكلات الأقليات القومية والدينية بشكل عام، وألغى حكم الإعدام، وكادت تركيا تحقق شروط الاتحاد الأوروبي، لكن هذا الاتحاد لم يغير موقفه من انتسابها إليه.

 فاتجهت السياسة التركية عند ذلك اتجاهاً جديداً، ورأى أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية، أنه يمكن فرض قبول تركيا في الاتحاد، إذا استطاعت أن تكون دولة قوية مهيمنة في الشرق الأوسط ووسط آسيا.

ولذلك أقامت تركيا علاقات جديدة مع العرب، ومثلها مع بلدان آسيا الإسلامية السوفييتية سابقاً، وصار واضحاً الدور المهم لتركيا في الشرق الأوسط ووسط آسيا، لكن السياسة التركية وقعت في عدة أخطاء غير مبررة، وربما كان سببها الغرور وقصر النظر وعدم استيعاب ظروف السياسة الدولية وتطوراتها.

في الداخل تصرف حزب العدالة والتنمية وكأن أكثريته البرلمانية ستبقى إلى الأبد، فلم يعد يأخذ رأي حلفائه، ولا رأي معارضيه في شؤون الدولة الاستراتيجية، ما قربه من الحاكم المطلق، وقرب نظامه من النظام الشمولي.

وفي السياسة الخارجية وقع حزب العدالة والتنمية في خطأ كارثي، وهو أنه لم يكتف فقط بتهيئة المناخ في الشرق الأوسط، لتكون تركيا الدولة المهيمنة والمؤثرة إقليمياً، بل راوده حلم أن يقيم أنظمة إسلامية على شاكلته، فبنى علاقات مع حركات الإخوان المسلمين، وربما شجعها على تولي السلطة في بلدانها بمختلف السبل.

وخاصة بعد انتفاضات الربيع العربي، ونقل مقر التنظيم العالمي للإخوان إلى تركيا ليكون زعيم الحركات الإسلامية في المنطقة، وبالتالي زعيم الأنظمة الجديدة، بما يؤهله لفرض رأيه على أوروبا وقبوله في اتحادها، لكنه بهذا التوجه أفشل سياسته من خلال انتصاره للإخوان في مصر انتصاراً فجاً، أوصله للتدخل في الشؤون الداخلية المصرية، وتجاهل دور مصر وحجمها وإمكاناتها وزعامتها التاريخية، فخسر العرب، وأوهام النفوذ التي توقعها.

وفي الوقت نفسه ارتكب ما سمي مجازر القضاة وضباط الشرطة، وضاق صدره بالمتظاهرين السلميين.

يبدو أن مرحلة تراجع حزب العدالة والتنمية قد بدأت، وبدأ معها يخسر رصيده الشعبي، ما يتعذر عليه معه أن يحقق حلم رئيسه بأن يصبح رئيساً للجمهورية التركية كلي السلطة، سواء قبل الأوروبيون تركيا في اتحادهم أم لم يقبلوها.

 

Email