في مآل فوضى ربيع التغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد عقود وعهود من الحكم الدكتاتوري والفساد المستشري في العالم العربي، لجأت الشعوب العربية إلى طريقة العلاج بالكي ضد بعض أنظمتها السياسية. وجدت أن لا مناص من الثورات والانتفاضات والكفاح المسلح، للتخلص النهائي من تلك الأنظمة.

عانت وتعاني الشعوب من عملية التغيير بالطريقة هذه، وانعكس ذلك بفقدان النظام العام وضعف تطبيق القانون، إلى جانب خسائر بشرية كبيرة من الضحايا والجرحى، والخسائر المادية والاقتصادية الفادحة.

انتشرت الفوضى، ومعها زاد الفساد حتى في المجتمعات التي أفلحت في التخلص "نهائياً" من الأنظمة السياسية السابقة. في الأفق المرئي ستظل تلك الشعوب تعاني نزفاً اقتصادياً وبشرياً وأنشطةً اجتماعيةً مختلفةً، وحتى إشعار آخر.

إلى حد لا بأس به، نجحت الشعوب في إدخال بعض أوجه وأسس الديمقراطية إلى المجتمع العربي. حرية إبداء الرأي والتعبير عن الذات هي أكبر المنجزات؛ رغم السلبيات الجمة المصاحبة لذلك. قسم من الشعوب الثائرة خاض انتخابات رئاسيةً وبرلمانيةً، وأنشأ دساتير ديمقراطيةً يمكن أن تشكل بدايةً ناجحةً لإرساء الديمقراطية المنشودة.

القسم الآخر من الشعوب يواجه تراجعاً واضحاً في إرساء البنية التحتية الاجتماعية والإدارية للنظام الديمقراطي القادم إليها، عاجلاً أم آجلاً. حلت أنظمة دكتاتورية "مقنَّعة"، وعدت الشعوب بأنها ستجلب الديمقراطية الحقيقية دون الحاجة للفوضى وما يتبع ذلك من خسائر كانت الشعوب قادرةً على تجنبها بادئ ذي بدء. منذ البداية سار جل حركات التغيير العربية بشكل ارتجالي، ودون قيادة حكيمة أو رأس مدبر، وتُرِكَ المجال للفوضى تحل بالمجتمعات المتعطشة للتغيير؛ بأي ثمن تدفعه مهما كان عزيزاً.

آفاق مستقبل مزدهر وناجح أمام الديمقراطية في العالم العربي، باتت أكثر قتامة من أي وقت مضى. الشعوب العربية الآن تعاني الفقر والفوضى والتشتت والضياع، وضعف الإمكانات الإدارية المركزية والمصادر الاقتصادية الاستراتيجية. تحتار الشعوب وقياداتها الجديدة الآن بين المضي قدماً نحو المستقبل مع تحمّل التبعات الجسيمة للثورات، أو العودة إلى منهجية الأنظمة السابقة مع بعض التغييرات الشكلية والسطحية.

لم تتّبع الشعوب العربية الثائرة طرقاً مدروسةً بعناية وهدوء، للحفاظ على مكتسباتها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مختلف مراحل ثوراتها. سيطرت على عقول أصحاب التغيير، نمطية التدمير والتغيير بالقوة والسرعة الممكنة. تعرضت لخسائر كبيرة تنتظر تعويضات نقديةً لها من مصادر خارجية؛ الأخيرة وهمية في الأصل، وتعاني النضوب والشح بسبب الأزمات الدولية الاقتصادية الحادة. اللجوء إلى المصادر المحلية أصبح عبثياً، بسبب وقوع تلك المصادر في أيدٍ خارجية وبشكل أكثر حدةً من أي وقت مضى.

الأوضاع العامة في العالم العربي لا تبشر بكثير من الخير. هنالك عدد من الدول العربية الرئيسية سياسياً وبشرياً واقتصادياً، أصبحت تواجه أوضاعاً لا تُحسد عليها. العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر وتونس، ومعها دول أخرى تنتظر مرور ربيع التغيير عليها، تشكل الغالبية العظمى من سكان العالم العربي. بات من العبث التكهن بمستقبل مشرق عليها في المدى القريب؛ هذا عدا عن البعيد.

تلك الدول لم تزل في بداية الطريق الطويل نحو جني أية ثمار حقيقية يُعتدُّ بها لربيع التغيير فيها. لم تزل تواجه أوضاعاً بائسةً وحرجةً في كل مجال من مجالات الحياة، في المجتمع والدولة، والسياستين الداخلية والخارجية.

الأوضاع الخطيرة الجديدة استراتيجياً، تستدعي من القائمين على الأمور في العالم العربي الجديد العمل الجاد والاجتهاد والتفكير والتخطيط؛ أكثر من أي وقت مضى. عليها أن تحرز تقدماً في مجالات المصالحة الوطنية والاجتماعية، والشروع في وضع خطط للتنمية للسنوات المقبلة، في سبيل إنقاذ ما تبقّى من الاقتصاد والهوية والحضارة والثقافة.

على تلك القيادات أن توجد مناخاً محلياً وتعاوناً إقليمياً ودولياً، يهدف إلى الخروج من المأزق الحرج والمنزلق الخطير الذي آلت إليه الأمور. بالذات عليها أن لا ترفض فكرة تخلّي زعيم، أو مجموعة من الزعماء، عن مناصبهم في حال فشلت خططهم المنشودة في الإصلاح والتطوير والتنمية.

في النهاية، هذه هي الديمقراطية واحترام قدرات الآخرين الفكرية والعملية، والإدارية التطبيقية على أرض الواقع.

Email