مسلسل جولات جنيف-2

ت + ت - الحجم الطبيعي

أظن أن أكثر السياسيين تواضعاً في ثقافته السياسية، وقدرة على التحليل والاستقراء، كان يعرف استحالة وصول مؤتمر جنيف-2 لحل المعضلة السورية، وكان جميع ذوي العلاقة الإقليميين والدوليين، يدركون تعذر الوصول إلى نتائج ذات جدوى، لأن ذلك يحتاج لتحقيق شروط موضوعية، يؤدي توفرها من دون غيرها إلى نتائج ملموسة وحلول واقعية، وهذا لم يتوفر بعد.

ويعرف السياسيون في الدول الكبرى وغير الكبرى، أن نجاح المؤتمرات لا يتحقق بفصاحة اللسان ولا بقوة الإقناع، وإنما بتوفر الشروط الضاغطة، التي يؤدي جدلها إلى نتائج فعالة، وهذا لم يكن يتحقق في الجولة الأولى لمؤتمر "جنيف-2"، الذي عقد في الشهر الماضي، حيث لم تكن الدولتان الراعيتان قد اتفقتا على إطار عام للمقررات المحتملة.

ولا على مشروع يصلح ليشكل تسوية تصدر كونها مقررات عن المؤتمر، فضلاً عن أن كلاً من الطرفين السوريين تقدم بمطالب الحد الأقصى، وعلى ذلك كان لا بد من أن ينتهي المؤتمر إلى ما انتهى إليه، أي إلى لا شيء.

يحاول الروس والأميركان أن يصلوا لاتفاق على قضايا عالمية عديدة، ويرغبون في حلها دفعة واحدة حزمة لا تتجزأ، قبل الاتفاق على حل الأزمة السورية، منها الملف النووي الإيراني، والأزمتان الأوكرانية والجورجية، ونصب الصواريخ في بولونيا، وغيرها من القضايا المتشابكة في أوروبا والشرق الأوسط.

ونظراً لكونهما الراعيين الرئيسين لمؤتمر جنيف، فلا يمكن الوصول إلى نتائج لم يتفقا عليها مسبقاً، والأمر نفسه بالنسبة للأوروبيين، الذين يراعون الموقف الأميركي، وللعرب الذين يأخذونه بعين الاعتبار.

على النطاق السوري الداخلي لم يحسم الصراع حسماً جدياً، فالتقدم العسكري لأي من الطرفين ما زال متواضعاً، وما زال الصراع المسلح بينهما بين تقدم وتراجع، كما لم يقتنع أهل السلطة بالحل السياسي لأنهم لا يرغبون في التسوية السلمية، بل ما زالوا يرفضون أي تنازل عن أي من رغباتهم ومطامحهم.

ولا ترى المعارضة بدورها انقساماتها السياسية والعسكرية والتناقضات التي تنهش جسمها، وما زالت تعتقد بإمكانية تحقيق أهدافها كاملة من دون أخذ الظروف بعين الاعتبار.

وفي الحالات كلها، فإن الظروف المناسبة لم تتوفر ليتوصل الطرفان لحل ناتج عن رغبتهما وجهودهما الذاتية، وما زال الأمر ينتظر واقعياً قراراً دولياً، لم يُتخذ بعد. وفي هذه الظروف والتعقيدات، ليس للفصاحة والمظهرية الكلامية وقوة الحجة أي دور في الوصول إلى حل.

والمفارقة أن الجميع يعرف ذلك ويتجاهله، ويخدع نفسه، كما يخدع الآخرين، حتى وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية والرأي العام الإقليمي والدولي، كانت تتحدث عن إمكانية الوصول إلى نتائج، وهي متأكدة من انعدام وجود هذه الإمكانية، وهكذا فالكل يتابع ويقترح ويناقش وينتظر، وهو يعرف أن هذا كله مجرد آمال لن تتحقق.

ويستأنف مؤتمر جنيف جولته الثانية هذه الأيام، والظروف والشروط ما زالت نفسها، وإذا لم يتفق الراعيان فمن غير المتوقع أن يحقق المؤتمر أي نتائج مهما تعددت جولاته، ويبدو أن اتفاقهما بعيد المنال.

كان من الواضح خلال الجولة الأولى، أن الوفد الحكومي مهتم بأمر واحد فقط، هو إبعاد شبح هيئة الحكم الانتقالي عن جدول التفاوض، بهدف إبقاء الحال كما هو، ولذلك رفض تنفيذ "الصغيرات" خشية الوصول إلى الكبيرات.

وفي الوقت نفسه، شغل أمر الوصول إلى إقرار هيئة الحكم هذه معظم اهتمام مفاوضي المعارضة، ما أدى إلى تراخيهم نسبياً في الإصرار على تلك القضايا "الصغيرة" آنفة الذكر، وتركيز جهودهم على الأمر الأهم، وهو تشكيل الهيئة، وهكذا بقي الحال كما هو، وانتهى المؤتمر بلا نتائج، وبقي الشعب السوري يعيش مأساته ويغرق بدمائه.

من البديهي أنه إذا أريد لمؤتمر جنيف وجولاته تحقيق نتائج ملموسة وتسوية حقيقية للأزمة السورية، بإنهاء سيل الدماء، والوصول إلى نظام ديمقراطي عادل مستقر، فلا بد من توفر الظروف المناسبة أولاً، حيث يمكن بعدها الوصول إلى النتائج المرجوة

. ومادام تطور الأزمة خلال ثلاث سنوات، قد نقل حلها إلى خارج البلاد، ووضعها في أيدي روسيا والولايات المتحدة، وهمّش أدوار السوريين على مختلف توجهاتهم (حكومة ومعارضة)، فإن الحل أصبح بالضرورة في يد الدولتين الكبريين.

وليس في يد أحد غيرهما، لأن الجميع يلعبون أدواراً ثانوية مكملة فقط، ولن تحل الأزمة إلا إذا اتفق الكبيران، وما عدا ذلك فإنه يشبه الحراثة في البحر، وما جولات جنيف التي نشهدها، إلا لإعطاء مهلة لكل الأطراف، وإطالة أمد الوقت الضائع.

يبدو أن حل الأزمة السورية سيبقى بعيد المنال، ما لم يقرر الروس والأميركان غير ذلك، وهذان الطرفان ـ لسوء الحظ ـ يصران على حل جميع خلافاتهما الأخرى، قبل الدخول إلى حل الأزمة السورية، بعد أن أدخلاها في المساومة.

وإذا بقيت الأمور على حالها، فعلى السوريين انتظار وصول الراعيين لاتفاقات على خلافاتهما ليأتي دور الأزمة السورية، وريثما يتحقق ذلك فالكل يخدع الكل، ويستهلك الوقت، ويكسب مُهلاً، يدفع الشعب السوري ثمنها غالياً، وعلى الجياع أن يبقوا جوعى، والمشردين في بقاع الأرض المختلفة أن يتعودوا التسول.

 

Email