عندما يضيع الهدف الأساسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد تزورنا ذكريات الطفولة، أهداف عظيمة تراودنا، أمنيات وفيرة تنهمر كرذاذ المطر، وقد نمت في أذهاننا طموحات مبجلة، وأثقلت خواطرنا أحلام لاهثة.. صور عديدة نسجتها تأملاتنا كلما سمعنا تصفيقا حادا للصاعدين على المسرح، أو هتافات تهنئة للسابقين في ماراثون ما، وتظل صورة الحلم تراودنا، تلاحقنا في أروقة المدارس وأزقة الجامعات، ثم نعشق العلم هدفا، نكاد نتقن فن العلوم حربا، ونتعلم أبجدية البحوث غزاة، عسى أن يسهل صيد أحلامنا، أو يلين درب أهدافنا، وتظل أصداء الماضي ترن فوق رؤوسنا "كن نجما يسطع في السماء أو علما يرفرف في الفضاء".

ثم يرسم كل واحد منا هدفا أو طموحا، فالهدف هو ما يسعى إليه الفرد من أجل تحقيقه، وقد يوجه سلوكنا ويحرك دوافعنا واتجاهاتنا، فهناك أهداف مختلفة، منها أهداف نظرية كالتجارية، والسياسية، والأكاديمية، ومنها أهداف محسوسة كالتربوية والسلوكية، إلا أن الأهداف السلوكية قلما تداولها الأفراد. فعند نسج الخطط ورسم الأهداف، نجد فقرا في الاستراتيجية وخطط الأهداف السلوكية، وندرة المناهج والبحوث لتلك الأهداف.

حيث نجد أن الأهداف المحسوسة يداهمها غالبا النسيان والإهمال، لذا من الأفضل اتباع مسار استراتيجي للأهداف، وتحديد الأهداف السلوكية على جميع المستويات، على المستوى الأدنى بالالتزام والمشاركة، وعلى المستوى الأعلى بالقيم والسلوك الأخلاقي.

فالأهداف التربوية أو السلوكية يجب أن تساعد على بناء الإنسان المتكامل، عقليا ومهاريا ووجدانيا، بما فيها العواطف والمعتقدات والقيم، كالتقدير والاحترام والتعاون ومفهوم التقييم. كما يجب أن تكون ممارستنا اليومية وسلوكياتنا مجموعة أهداف نسعى لتحقيقها، ومن الضرورة وجود خطة موجهة تناسب الأهداف السلوكية، بحيث تطور سلوكيات الفرد وتكون جزءا من شخصيته وأهدافه، وذلك بواسطة اكتساب الفرد للاعتقادات والاتجاهات الصحيحة والصحية، التي تناسب البيئة الصحيحة والمحيط المنتج والمتوازن.

ومن الضرورة إيجاد خطة متكاملة ومتجانسة للأهداف النظرية والمحسوسة معا، ومن الأجدر احتضان الأهداف والشعور الذاتي بالكمال الإنساني والرضى النفسي، فالإنجاز يجب أن يكون ثمرة عمل متكامل صادر عن رضى الشخص لنفسه، فلماذا لا يكون الهدف هو التبني الذاتي والاستيعاب الداخلي، ويكون تعيين أسلوب السلوك في حياة الفرد والجماعة جزءا من الخطط اليومية والمستقبلية؟ ولماذا تحقيق غاية أو هدف يجب أن يكون محصورا على نظرة الآخرين، وليس نظرته هو الشخصية إلى عالمه الداخلي والنفسي ومدى اقتباسه لمعتقدات سامية وسلوكيات إيجابية؟!

إن الوصول إلى الإنسان النموذجي هو الهدف الأكبر والأساسي الذي يجب أن نرنو إليه، الإنسان النموذجي بسماته السامية، كالصدق والإخلاص والإحسان وغيرها من الصفات النبيلة.. ومن الضرورة وجود دراسات وبحوث وآليات متطورة للتغلب على السلوكيات السلبية، كما أن للأسرة والمؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية، دورا كبيرا في ترسيخ السمات والسلوكيات الإيجابية كأهداف جوهرية تسبق الأهداف النظرية، كما تقع المسؤولية على المجتمع في تقليص أو تعظيم حجم أي هدف من الأهداف على حساب الآخر.

فالمشاكل الاجتماعية تتفاقم عند الاعتناء بالأهداف النظرية من غير تثبيت الأهداف التربوية أو السلوكية، خصوصا في المجتمعات التي لا تزال محكومة بجذور الأمية وقشور الثقافة، وعند المحطات القابعة للأنظمة الفاسدة والمحيط المتلوث.

حيث تمثل الأهداف النظرية غاية قد تبررها أي وسيلة، وعندما يتصاعد الصراع لنيل الأهداف، وتنفد الطاقات الإيجابية وتفقد المؤهلات المعرفية أهميتها، تبرز أسلحة جديدة على ساحة المبارزة، وتتأهب الذخائر السلبية، ثم تشرع عملية اقتباس فنون الغش والزيف والنفاق الاجتماعي وأدوات النميمة والفتنة، وتبرز مخالب الدهاء والمكر..

وبعد اغتيال الأهداف الحقيقية وغرق أساطيل القيم والنبل، تتكسر التماثيل النموذجية للإنسان، وفي نهاية المطاف، وعند الصعود لأعلى السباق، وارتداء حلة النجاح، والجلوس على أريكة الفائزين، ووسط تصفيق الجمهور الحاد، لا يبقى في النهاية إلا النموذج اللا إنسان.

Email