النهضة التونسية وأخذ العبرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تولت حركة النهضة التونسية السلطة في وقت متقارب مع تولي الإخوان المسلمين المصريين لها، وسقطت سلطة الإخوان في مصر خلال عام واحد، بينما استمرت ولاية النهضة حتى الآن، مع أن التنظيمين ينهلان من منهل واحد ويرغبان في إقامة حكم مرجعيته فهمهما للإسلام.

وفي تغيير نظام الحكم القائم في كل من تونس ومصر بما يتلاءم مع رؤية كل منهما، وخلط أوراق الدولة والدين، والفقه والقانون، والتشريع والشريعة، مما يطرح تساؤلاً ملحاً حول أسباب فشل الإخوان في مصر وسقوط حكمهم، واستمرارهم في تونس.

لقد بدأت حركة النهضة السير بالطريقة نفسها تقريباً، التي سارت بها حركة الإخوان المسلمين المصرية، أعني محاولة إقصاء الأحزاب والحركات السياسية الأخرى، وإبعاد الآخر بشكل عام والاستئثار بالسلطة، لكنها لم تستطع ذلك كما استطاع الإخوان المصريون.

وحاولت النهضة كالإخوان، تحويل الدولة إلى دولة الحزب، وخطف السلطة وإدارة الدولة، وتعيين أنصارها في أعلى المناصب، والهيمنة على وسائل الإعلام، والتضييق على التيارات الإعلامية الديمقراطية والتعددية.

وإحالة الإعلاميين والصحافيين إلى المحاكم (والحكم عليهم) ومعاقبتهم، ومحاولة الارتداد على القوانين التونسية التي تحفظ حقوق المرأة (وهي مفخرة القوانين العربية)، وتساهلت مع المتطرفين الإسلاميين (السلفيين).

وتجاهلت تهديدهم لأمن المجتمع وسلامته، والتغاضي عن عنفهم وارتكاباتهم، سواء بالتساهل مع العنف الذي يمارسونه ضد الآخر أم العنف المسلح ضد أجهزة الأمن، حتى تجرأ هؤلاء بالبدء بعمليات اغتيال آثمة لشخصيات سياسية معارضة.

ويقال إن حكومة النهضة كانت تعرف أسماء المتآمرين ومجالات التآمر، دون أن تتخذ قرارات جدية وحاسمة تجاههم.

وقد استخف هؤلاء بالمجتمع، وبدأوا عمليات إرهابية ضد قوات الأمن والجيش، مما أيقظ الحكومة من غفوتها، ونبهها متأخرة لمخاطر الإرهاب المتزايد الذي يمارسه السلفيون، ليس على تونس فقط بل على الجزائر أيضاً.

كما تغاضت حكومة النهضة عن ممارسات أنصارها الخاطئة من وزراء ومديرين عامين، هذه الممارسات التي وصلت إلى الكذب والتدليس والتزوير والفساد، وصار واضحاً للجميع أن حكومة النهضة تعمل للاستحواذ على السلطة والاستئثار بها، واستطراداً ستصل إلى إلغاء الديمقراطية والتعددية التي اتفقت عليها مع الأحزاب التونسية الأخرى مطلع الثورة، وتحويل المجتمع التونسي والسلطة التونسية إلى مجتمع الحزب الواحد وسلطة الحزب الواحد.

وقعت ثلاثة أمور مهمة اضطرت حركة النهضة التونسية للعودة إلى رشدها وأخذ العبر، أولها ولوغ السلفيين في العنف المسلح، وتوسيع نطاقه بخفة واستهتار، واغتيال شخصيتين تونسيتين مهمتين معارضتين، هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ومواجهة قوات الجيش والأمن على الحدود الجزائرية، ومحاولة هؤلاء السلفيين قسر المجتمع وإجباره على السير في تطور محدد.

وثانيهما رفض المجتمع المدني التونسي لسياسة النهضة رفضاً قاطعاً وشجاعاً وواسعاً، ويبدو أن تطور منظمات المجتمع المدني التونسي أهلها لتكون شريكاً حقيقياً في اتخاذ القرارات المصيرية، أو على الأقل لتشكل قوة ضغط هائلة.

ويبدو أن حركة النهضة لم تكن تدرك درجة تطور هذه المنظمات وقوتها، وقد لاقت من هذه المنظمات رفضاً شديداً لسياساتها، كما لاحظت قوة هذه المنظمات داخل المجتمع، وقدرتها على تحريكه، مما اضطر الحركة لأن تأخذ ذلك باعتبارها.

والأمر الثالث الذي فاجأ حركة النهضة، هو سقوط دولة الإخوان المصرية، والنهاية المفجعة لسياساتها الخرقاء ولمحاولاتها الاستيلاء على السلطة والدولة ورفض الآخر، و"أخونة" الإعلام وإدارات الدولة والسياسات العامة، وفرض قيود جديدة على المرأة المصرية وتجاهل حقوقها أكثر مما هي متجاهلة، تماماً بما يشبه الطريق الذي كانت تسير فيه حركة النهضة. وأدركت قيادة النهضة عندها أن طريقها مسدود، وربما اقتنعت بتعذر إقامة دولة على هواها ومفاهيمها، ومخاطر تجاهل التطور والظروف السائدة في العالم، والاستئثار بالسلطة.

وقد وجد قادة النهضة التونسية ضرورة أخذ العبر مما جرى في مصر، وما جرى في تونس أيضاً، والتخلي ولو مؤقتاً عن أوهام مصادرة الدولة والمجتمع والاستئثار بهما، وحتمية استيعاب الحداثة، والقبول بالدولة المدنية التي لا غنى عنها في عصرنا.

وهذا ما ألزم حركة النهضة بالتخلي عن سياستها ضيقة الأفق، والعودة للتشارك مع الآخرين، والخضوع لمعايير الديمقراطية، وإعادة النظر في محاولات الهيمنة، وإنقاذ الحركة في النهاية من الطريق المحفوف بالمخاطر الذي كانت تسير عليه، والذي أودى بالإخوان المسلمين المصريين.. وطمعاً أيضاً في الحفاظ على أصوات الناخبين في الانتخابات المقبلة، التي أعطيت لها في الانتخابات السابقة، حيث أصبح من المشكوك فيه الحصول عليها مرة أخرى.

وأخيراً، أعتقد أن حركة النهضة التونسية وحركة الإخوان المسلمين المصرية، مطالبتان بعرض تجربتيهما من جديد أمام التنظيم العالمي للإخوان، بهدف تعديل استراتيجية الحركات الإسلامية جميعها، ومفاهيمها وتغيير بنيتها، وجعلها أقرب إلى روح العصر وللتحديث..

بعد أن قدمت النهضة والإخوان سابقاً، آراء ووجهات نظر أمام اجتماعات التنظيم العالمي، أوحتا فيها بصحة طريقهما السابقة، مما ضلل بعض أطراف التنظيم العالمي وورطها في مواقف لا تعتمد على معلومات دقيقة، كما هو حال حزب العدالة والتنمية التركي تجاه النظام المصري الجديد، وتدخله في شؤون مصر الداخلية.

لقد أخذت حركة النهضة العبرة مما جرى في مصر، وسهلت التوافق على مشروع الدستور التونسي، تمهيداً لوضع تونس على طريق الديمقراطية، فأنقذت نفسها قبل أن تنقذ تونس.

 

Email