الثورة والمؤامرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد تكون أعداد المصريين الذين نزلوا إلى مختلف الميادين المصرية احتفالًا بالذكرى الثالثة لثورة 25 يناير، تفوق كثيراً أي أعداد لهم في احتفالات سابقة، في تحدٍ صاعق للعمليات الإرهابية التي تكاثرت أخيراً، فلا يمر يوم دون انفجار قنبلة أو عبوة ناسفة بالقرب من مراكز ومديريات الأمن، لكن لم يسلم الاحتفال من تساؤلات نخرت في أفئدة وعقول مصريين كثيرين، حول طبيعة 25 يناير 2011: هل هي ثورة مصرية خالصة، أم مؤامرة من أطراف أجنبية استغلت حالة غضب شعبي عارم ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك؟

وهي تساؤلات غريبة جداً، لأن المسافة بين الثورة والمؤامرة كالمسافة بين السماء والأرض، لا يمكن الجمع بينهما في مشهد واحد.. لكن الحالة المصرية أشد غرابة، فجمعت الضدين بشكل مذهل، وقد بدأت هذا الجمع مبكرا جدا، بعد خمسة أيام تقريبا من اندلاع مظاهرات الشباب في 25 يناير، وتحديدا في برنامج تليفزيوني استضاف صحافية شابة تعمل في جريدة خاصة، اعترفت على الهواء بأنها قبلت دعوة من منظمة حقوق إنسان وسافرت إلى البوسنة، وتدربت هناك على المظاهرات ومناهضة نظام الحكم، وكيفية تفتيت جهود الأمن وإرهاق أفراده، وأن ضباطاً إسرائيليين كانوا ضمن طاقم التدريب.

وقامت الدنيا وقتها ولم تقعد، وتعرض مقدم البرنامج "سيد علي" لحملة تشويه ومطاردة طالت كل شيء في حياته، وأُدرج اسمه مع ما يزيد على 40 صحافيا وإعلاميا، في قائمة سوداء باسم أعداء الثورة.

وتلاحقت الأحداث ساخنة ملتهبة ومتغيرة وعنيفة لسنتين ونصف السنة، وتصدر شاشات الفضائيات شباب متحمس، من حركات وائتلافات باسم الثورة، تجاوز عددها 120 ائتلافا، في ظاهرة نادرة لم تحدث في أي ثورة من قبل، وبات الناس يتساءلون: لماذا لا تتحد هذه الائتلافات في كيان أو كيانين كبيرين قادرين على منافسة التيار الديني في الانتخابات المقبلة؟! فكان الرد مفجعاً: حتى لا يخسر أي ائتلاف التمويل الأجنبي الذي يُضخ له لممارسه نشاطه!

قطعاً لم تخلُ الساحة من بضعة ائتلافات وطنية ذاتية التمويل قلباً وقالباً، لا يشغلها الطريق إلى التحويلات الأجنبية.

كانت الحكايات كلها شكوكاً في شكوك، إذ لها روائح عطنة ووجود محسوس، لكن لا يمكن الإمساك بها، أي أنها كانت أقرب إلى منصة صواريخ رمزية تستهدف سمعة هذه الحركات.. وبالفعل انتهز سدنة النظام القديم الفرصة، للثأر من شباب استهزأ بهم وسخر منهم وأهانهم على شاشات التلفزيون ونزع منهم السلطة، وراح هؤلاء السدنة ينفخون في نيران الشائعات لتصوير ثورة 25 يناير على أنها مؤامرة خارجية متكاملة الأركان، ولعبوا على أوتار التمويل الأجنبي لهذه الحركات والائتلافات، خاصة أن الوقائع أثبتت دخول ما يقرب من مليار دولار إلى الشارع المصري عام 2011، لكن هذه الشائعات أخذت تتشكل بالتدريج على هيئة كيان مادي له أدلة ووثائق وشهود عيان..

أولًا: من خلال برنامج تلفزيوني يقدمه الأستاذ عبدالرحيم علي، باسم "الصندوق الأسود"، أذاع فيه عدداً من المكالمات التليفونية السرية المشينة بين أعضاء من هذه الحركات، وتكشف جانباً من عمليات التمويل.

ثانيا: كتاب "الاحتلال المدني.. أسرار 25 يناير والمارينز الأمريكي"، ألفه عقيد مهندس عمرو عمار، وأورد فيه أسماء شخصيات عامة وتنظيمات مرتبطة بالولايات المتحدة وأجهزة المخابرات الغربية، لتنفيذ خطة إسقاط النظم في الشرق الأوسط وإسناد السلطة إلى جماعة الإخوان، بإشعال حروب الجيل الرابع من الثورات باسم الربيع العربي، في تونس ومصر وليبيا وسوريا، كقائمة أولى تمتد بعدها إلى بقية الدول العربية، ثم يعاد تشكيل النظام الإقليمي العربي على أسس عرقية وطائفية تضمن تناحراً دائماً بينها، وهو ما يسمح للكانتون الإسرائيلي بأن يعيش مطمئناً فارداً أجنحته على المنطقة.

وقد يكون البرنامج حالة طارئة ومستنداً مؤقتاً بالغ التأثير الفوري، ثم يمضي في حال سبيله إلى مقابر النسيان، لكن الكتاب وثيقة دائمة وتاريخ مُشهر يطارد أصحابه أبد الدهر، أي بمثابة ظل لا يستطيع أبطاله أو أحفادهم الفكاك منه. والمدهش أن بضعاً من الذين وردت أسماؤهم في البرنامج ذهبوا إلى القضاء، ليس دفاعاً عن سمعتهم متهمين البرنامج بالكذب والفبركة، وإنما استنجدوا بالقضاء لوقف البرنامج لأنه ينتهك الخصوصية التي يحميها الدستور! يعني تركوا الجوهر وأمسكوا بالإجراءات، كما يفعل كبار المحامين في دفاعهم عن تجار المخدرات.

أما الكتاب فلم يجرؤ أحد أو جماعة أو منظمة على مقاضاته، مع أنه نسب لهم أدواراً محددة في المؤامرة على الوطن.

نعود إلى السؤال الصعب: هل 25 يناير ثورة أم مؤامرة؟!

بالقطع هي ثورة شعب مئة في المئة، إذ انتزعها المصريون من بين براثن ثوار "السبوبة"، ونظفوا أسبابها ودوافعها وأهدافها من كل الدخائل الأجنبية.. باختصار؛ "مَصّروها" وأمموها لمصلحة وطنهم، ثم أعادوا تصحيح مسارها في 30 يونيو حين عزلوا جماعة الإخوان عنها.

وقد تكون هذه أول مؤامرة في التاريخ يحولها شعب إلى ثورة، تحاول النهوض من تعثرها في منتصف الطريق.

Email