هِبة سعودية للجيش اللبناني

ت + ت - الحجم الطبيعي

حدد رئيس الجمهورية اللبنانية، العماد ميشال سليمان، يوم 29 ديسمبر 2013 لعقد مؤتمر صحافي شامل، يعدد فيه إنجازات عهده، ويرد على أسئلة الصحافيين اللبنانيين والأجانب حول مستقبل لبنان. لكنه تراجع عنه فجأة، ليعلن عن هبة سعودية للجيش اللبناني قيمتها ثلاثة مليارات دولار، لشراء عتاد فرنسي يعزز من قدرة لبنان على مواجهة الإرهاب المتنامي على أراضيه.

الخبر، في حد ذاته، على قدر كبير من الأهمية. فالهبة سخية جداً، ولم يحصل عليها الجيش اللبناني سابقاً، ولا قدرة للدولة اللبنانية على تخصيص موازنة بهذا الحجم لدعم قوى أمنية، هي في أمس الحاجة للعتاد والسلاح، في مرحلة بالغة الخطورة تهدد أمن لبنان واستقراره.

لذلك تلقى لبنان الرسمي المنقسم على ذاته سياسياً، الهبة بشكر الملكة العربية السعودية على تقديم دعم غير مسبوق لتعزيز قدرات الجيش اللبناني بأسلحة فرنسية متطورة جداً، في حين شككت قوى لبنانية في أن تقدم فرنسا أسلحة متطورة للبنان في مواجهة الأطماع الإسرائيلية.. قد تستخدم ضد إسرائيل أو ضد قوى لبنانية تمتلك ترسانة أسلحة قادرة على توجيه ضربات موجعة لها.

كثرت التأويلات للأهداف غير المعلنة للهبة منذ لحظة الإعلان عنها، خاصة بسبب حصر الصفقة بالسلاح الفرنسي تحديداً. وتساءل بعض المشككين: هل تساعد الهبة فعلاً على بناء دولة متصدعة منذ سنوات عدة أم تزيد في تصدعها؟ فهي دولة رخوة، تخضع لضغوط أحزاب وقيادات طائفية ومذهبية، تغلب مصالحها وتحالفاتها الإقليمية والدولية على مصالح لبنان وأمنه واستقراره.

فالانقسامات الحادة بين القوى السياسية اللبنانية، ومشاركة بعض قواها العسكرية مباشرة في الأزمة السورية، أضعفت دور الجيش اللبناني وباقي مؤسسات الدولة المركزية، خاصة الجيش، نظراً لهيمنة السياسة على قراره العسكري. لكنه بقي موحداً وصامداً في مواجهة التحديات، وبات الرمز الأساسي، إن لم نقل الوحيد، الذي يجمع اللبنانيون على دوره في حماية لبنان من الحرب الأهلية.

ورغم المطالبة الشكلية بدعم الجيش، بقيت موازنة تسليحه هزيلة جداً، وحرم من التسلح بالمعدات اللازمة لكي يلعب دوره في حماية الوحدة الداخلية والسلم الأهلي. واكتفى أصحاب القرار السياسي بالخطب الرنانة، التي تمتدح دور الجيش الوطني بصفته القوة الوحيدة القادرة على إحياء الدولة المركزية وحماية مؤسساتها الوطنية الجامعة.

وبعد الإعلان عن الهبة السعودية لتسليح الجيش اللبناني بعتاد فرنسي متطور، شكك البعض في قدرة الهبة على بناء جيش وطني متماسك، يصون وحدة اللبنانيين ويمنع النزاعات الداخلية، ويحمي الوطن من اعتداءات إسرائيل اليومية.

لكن وحدة اللبنانيين في الدفاع عن وطنهم بكل الوسائل المتاحة، هي الضامن الأساسي لبقاء لبنان. وفي هذا السياق، تصنف الهبة السعودية في خانة دعم لبنان وقواه الأمنية، وتتطلب موافقة مجلس الوزراء اللبناني الذي يضم قوى سياسية متباعدة. وبالتالي، فالموافقة الرسمية عليها تؤكد على أنها لكل لبنان، وتوجهها لتعزيز عناصر القوة في قدراته الدفاعية، وليس لإضعافها أو ضربها. وهي غير مشروطة إلا بتحديد مصدر السلاح من فرنسا دون سواها، لأسباب ذات صلة بالتوافق السعودي الفرنسي في المرحلة الراهنة من جهة، ونظراً للعلاقة التاريخية المستمرة بين فرنسا ولبنان منذ زمن طويل، وتوصيف بعض الطوائف اللبنانية لفرنسا بـ "الأم الحنون".

فالتعاون الإيجابي بين المملكة وفرنسا لدعم وتعزيز قدرات الجيش اللبناني، يساعد على إعادة توحيد المجتمع اللبناني الذي عبر معظم مكوناته عن موقف إيجابي تجاه هذه المبادرة، التي تساعد الدولة المركزية على استعادة دورها المفقود. كما أن تجهيز الجيش والقوى الأمنية اللبنانية بأسلحة فرنسية عصرية متطورة، يساعد المؤسسات الشرعية اللبنانية على فرض سلطتها على كامل أراضيها. وذلك يتطلب تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة، وإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها الدستوري، وتعزيز الثقة مجدداً بين اللبنانيين، ووضع حد للفلتان الأمني المتنامي في معظم المناطق اللبنانية.

وتعتبر الهبة خطوة جدية لتعزيز قدرات الجيش وتسليحه بعتاد متطور من دولة صديقة للبنان، وتحرص على أمنه الداخلي واستقراره، ولها فيه مصالح مالية وثقافية واقتصادية واجتماعية كبيرة جداً. فالهبة إذن، فرصة ذهبية قد لا تتكرر لضمان أمن لبنان، عبر جيش وطني متماسك لم تخترقه النزاعات الطائفية والمذهبية، وأثبت كفاءة عالية في تعزيز ما تبقى من سلطة الدولة. ورغم شح الموازنة الضرورية لتجهيزه بالعتاد والسلاح، قدم الجيش اللبناني تضحيات كبيرة، دفاعاً عن وحدة لبنان وسيادته وأمنه واستقراره. وبالتالي، لا يجوز التشكيك في قيادة الجيش التي لن تسمح باستخدام الهبة لضرب الأمن والاستقرار في لبنان.

ليس من شك في أن تنفيذ بنود الهبة يحمل قيادة الجيش اللبناني مسؤولية مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية اليومية ضد لبنان، ويلزمه باتخاذ مواقف صلبة لمواجهة الانقسام الداخلي، والحد من مشاركة بعض القوى العسكرية اللبنانية في الأزمة السورية.

وهي تساعد على قيام دولة مركزية قوية، ومؤسسات عسكرية وطنية جامعة، وقادرة على حماية الاستقرار والسلم الأهلي في لبنان. ولا خوف من أن تقود الهبة إلى تضخيم دور القوى العسكرية لجمع السلاح بالقوة، فلديها خبرة واسعة في هذا المجال، ونجحت في تأدية دورها في ظروف داخلية بالغة التعقيد، وتحلت بحكمة بالغة في معالجة انقسام اللبنانيين، في غياب الاحتضان الوطني المطلوب لمواجهة التحديات الإقليمية.

ختاماً، تعتبر الهبة، في حال تنفيذها بإشراف المؤسسات الرسمية الحريصة على السلم الأهلي في لبنان، فرصة تاريخية لبناء جيش قوي مزود بأسلحة حديثة تلبي حاجاته وتطلعاته. ودعم الجيش بهذه الهبة المالية الكبيرة، يسهم مباشرة في دعم الاستقرار، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعودة الثقة في لبنان الوطن. وعلى اللبنانيين عدم إضاعة الوقت في التشكيك في هذه الهبة، بل الاستفادة منها على أكمل وجه، وتحويلها إلى دعم حقيقي لتعزيز دور الجيش الوطني، بصفته الضامن لأمن جميع اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومناطقهم وميولهم السياسية، وتحالفاتهم الإقليمية والدولية.

Email