زلزال في الربيع المصري

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا حديث في مصر الآن يعلو على حديث الزلزال، في البيوت والمقاهي والبرامج الحوارية، رغم تصاعد وتيرة العنف الإخواني وتكثيف نشاط الجماعة في الشارع، لعرقلة الاستفتاء على الدستور الجديد.

وقد يكون وصف "الزلزال" لصيقاً بالربيع المصري مجازاً لغوياً في "العربية"، لكنه وصف واقعي صارم في عالم السياسة، فهو زلزال بالفعل على هيئة موجات متتالية؛ من تسريبات لمكالمات تليفونية خاصة جداً، دارت بين نشطاء سياسيين في مصر ممن يسمون أنفسهم ثوار 25 يناير، زلزال هائل مشحون بطاقة من الأسرار الخطيرة الخبيثة، التي تكاد تهدم صور هؤلاء النشطاء رأساً على عقب، وتحولهم من نجوم في عالم الثورة والفضائيات، إلى مشبوهين معلقة في رقابهم اتهامات تمس الشرف والوطنية والكرامة، حتى لو لم يُقدّموا إلى ساحة القضاء.

وما يزيد من قتامة صور هؤلاء، أن هذه المكالمات لم تتسرب إلى شبكات التواصل الاجتماعي، أو مسجلة على "سيديهات" تنتشر في الخفاء بين العامة ويمكن الطعن فيها، فما أسهل تزوير الأصوات والصور باستخدام برامج الكمبيوتر، بل أذاعها الصحافي المعروف عبد الرحيم علي، مسلسلاً على حلقات في قناة فضائية، مقرونة بلغة في غاية القوة والتحدي والعبارات الجارحة، التي تجاوزت أحياناً إلى أوصاف يمكن أن يصنفها القانون سباً وقذفاً.

الاتهامات تنسب لنشطاء بعينهم، منهم مؤسسو حركة 6 أبريل، أنهم اقتحموا مباحث أمن الدولة المصرية، بعد ثلاثة أسابيع من سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك وانهيار أجهزة الأمن، ونهبوا ملفاته وأوراقه ووثائقه، ليس بقصد الكشف عن ممارسات غير إنسانية دأب هؤلاء النشطاء وغيرهم على نسبتها إلى ضباط وقيادات هذا الجهاز، ضد سياسيين معارضين وشباب متمرد ومنتمين للتيارات الإسلامية ومواطنين يدعون لتغيير نظام الحكم..

لم يقتحموا المبنى العتيد ذا البوابات الفولاذية من أجل هذا الهدف النبيل، وإنما للاستيلاء على ملفاتهم الشخصية الموجودة في الجهاز، والتي تحتوي على " فضائح مشينة"، بعضها خاصة للغاية، وبعضها فضائح عامة في شكل تمويل من منظمات وجهات أجنبية لنشر الفوضى والاضطرابات في البلاد.

وكانت العبارات في كل المكالمات واضحة لا غموض ولا لبس فيها، ولا تقبل أي تفسيرات جانبية أو خارج سياق "تمويل مؤامرات من الخارج"، وأصوات أصحابها لا تحتمل الشك ولا نصف الشك، بل إن واحداً من هؤلاء سأل أحد المقتحمين: هل قرأ الملف أحد غيرك؟! فرد عليه: لا تخف، كل الملفات فيها فضائح.

باختصار؛ سقطت أقنعة الثورة عن وجوه مشوهة، حاولت ركوب الحدث العظيم واحتلال صدارة المشهد، وهذا لا يمس جوهر الثورة المصرية في أسبابها ودوافعها وأهدافها، فنزول ملايين المصريين إلى الشوارع والميادين بشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، انتشل الثورة من هذا المستنقع الخاص، ونقل ملكيتها كاملة إلى المصريين كافة.

لكن أخطر ما في هذه المكالمات، هو عثور أهل مصر على أسباب دوام حالة الفوضى الضاربة في كل جنبات حياتهم، فهي فوضى مدفوعة الثمن ومصنوعة بمهارة، وتعمل عليها هيئات وأجهزة ومنظمات وأشخاص بكل طاقاتهم، مستغلين بيئة صالحة للتمرد، أوتار أعصابها مشدودة على الآخر، ولا تسمح للعقل الجمعي للمجتمع بأن يفكر بطريقة صحيحة، مما يورطه بسهولة في الفوضى المدفوع إليها، في ظل وجود ما يقرب من نصف مليون صبي شوارع ما بين سن العاشرة والثامنة عشرة، ميالين للعنف وجاهزين لفعل أي شيء مدفوع الأجر، ولا يشعرون بمعنى الوطن.

فالعيش في العراء يجفف مشاعرهم العامة، ويصبحون مثل قنابل موقوتة قابلة للانفجار عند استخدامها.

المهم أن شخصيات عامة مشهورة حاولت "لم الموضوع" وإيقاف البرنامج الذي يذيع هذه المكالمات، باسم القانون وحماية الخصوصية، لا سيما أن هذه التسجيلات هي غير قانونية بالمرة، وقد تكون فعلاً مجرماً لمن سجلها، ولا يُعَول عليها قطعاً في أي قضايا مرفوعة ضد أصحابها في المحاكم، لأنها تمت دون إذن النيابة العامة، وتبدو مثل قذائف تشهير لوأد سمعتهم واغتيالهم معنوياً لا أكثر ولا أقل.

وقالوا في بيان أرسلوه إلى المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية، تحت عنوان "جريمة ضد حقوق الإنسان وانتهاك لسيادة القانون": "ونأمل تدخل سيادتكم واتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية دولة القانون من الانهيار تحت معول الاتهامات الملفقة والمصالح المغرضة وتصفية الحسابات الشخصية".

وبالطبع لا يملك رئيس الجمهورية التدخل، ولكن يمكن لأصحاب المكالمات أن يجرجروا ناشرها إلى المحاكم لو أرادوا.

المهم أن جدلاً ثقافياً صاخباً اشتعل وما زال بين طرفين، طرف يهاجم التسجيلات ويهدد من أذاعها بالسجن دون أن يقدم بلاغاً إلى النيابة العامة، وطرف يدافع عنها متسائلاً: كيف للخصوصية أن تتغلب على المصلحة العامة؟ وكيف يحافظون على حقوق أفراد أهدروا هم حق الوطن في أمنه واستقراره؟!

أما أهل مصر العاديين فقد حسموا موقفهم وصاروا ينتظرون الجديد من هذه المكالمات المسربة، ليعرفوا ما الذي حدث فعلاً في السنوات الثلاث الماضية، ويترصدون أصحابها الذين دخل بعضهم السجن مداناً بانتهاك قانون التظاهر.

 

Email