مواقف متوقعة في «جنيف-2»

ت + ت - الحجم الطبيعي

ينشغل المهتمون من ممثلي الدول الكبرى والإقليمية والعربية، وممثلي المعارضة السورية والنظام السوري، بمؤتمر جنيف-2، وتجدهم مختلفين حول من يحضره، ومحاور جدول أعماله، وأسماء أعضاء الوفود المشاركة فيه، ومكان الاجتماع، ومدة المؤتمر، والإطار العام لمقرراته المحتملة، وهل هي ملزمة أم لا؟

ومن الذي سيلزم الأطراف المعنية كي تطبقها؟ وينشطون وكأن نتائج المؤتمر ستحل الأزمة السورية وتنهي عذابات الشعب السوري، وتوقف نهر الدماء الذي يسيل في سوريا وأعمال العنف والتهديم والتدمير والاعتقال والتشريد، مع أن معظم هؤلاء ليس لديهم في دواخلهم يقين أو شبه يقين بأن المؤتمر سيصل إلى نتائج تحقق الأهداف المطلوبة منه أو حتى بعضها.

وهم في الواقع يتواطؤون مع أنفسهم وعلى أنفسهم، كما يتواطأ بعضهم على البعض الآخر، وينشغلون بالقضايا الثانوية والإجرائية ذات العلاقة بشكليات افتتاح المؤتمر، وبالاجتماعات والندوات الدبلوماسية وغير الدبلوماسية، بينما يسعى كل منهم ويبذل جهداً جهيداً لتحقيق مصالح بلاده أو تياره السياسي قبل كل شيء..

ولا يهتم معظمهم بأن الشعب السوري يدفع ثمناً غالياً لأي تأخير، ويعيش مأساة من المآسي الكبرى في التاريخ الإنساني، وينتظر الدبس من جنيف، التي لا دبس فيها ولا عنب ولا زيتون.

من جهة أولى، يرفض النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون والروس رفضا مطلقاً، أي تنازل جدي ينبغي تقديمه لصالح الشعب السوري، مهما كان رأي المؤتمرين الآخرين في جنيف قابلاً أو رافضاً، ويرون أن المهمة الأساسية للمؤتمر هي توحيد الجهود لمقاومة الإرهاب في سوريا، إضافة لبعض الإصلاحات..

أما القضايا الأخرى من تغيير النظام وتحديثه أو تطويره أو إيقاف العنف والقتل والاعتقال والتدمير وغيرها، فهي أمور ثانوية في نظرهم، ويتساوى في ذلك الطرف الروسي مع الإيراني مع أهل السلطة السورية الذين صرحوا أكثر من مرة بأنهم لن يذهبوا إلى جنيف لتسليم السلطة أو تغيير بنية النظام وهيكليته، ويعتبرون أن هذه قضايا سورية داخلية تقع تحت مبدأ السيادة، ولا يحق لأحد بحثها سوى النظام وأهله.

ويؤكد الإعلام السوري يومياً، أن السلطة ذاهبة إلى جنيف لبحث إجراءات مقاومة الإرهاب وطرد الإرهابيين من سوريا ليس إلا، اللهم إلا باستثناء بحث بعض الأمور التي يسميها إصلاحية، وهي في الواقع تزيينية.

ومن جهة ثانية، يعمل الأميركيون والأوروبيون لإصدار قرارات عن المؤتمر تنبيْ بالوصول لشراكة "ودية" بين المعارضة والنظام، من تفصيلاتها توحيد الجيش النظامي السوري مع الجيش الحر، وتشكيل هيئة مشتركة بمثابة حكومة، ويأملون الاتفاق على تخفيف صلاحيات الرئيس..

أي أنهم في الخلاصة يتمنون تسوية سطحية بين الطرفين المتصارعين، لا تحل الأزمة ولا تؤسس لمستقبل واضح لسوريا، وتحافظ مقابل ذلك على مصالح الغرب والروس والإيرانيين في سوريا.

وهكذا تكون القرارات مرضية للجميع ومحافظة على مصالحهم، وتشكل الحد الأدنى المشترك من هذه المصالح، وتأخذ في اعتبارها تأمين القدرة على مقاومة الإرهاب في سوريا، في المرحلة اللاحقة.

أما المعارضة السورية فقد أعلنت من جهتها حزمة من الطلبات واسعة الطيف، لا تجد، رغم أحقيتها وصحتها، سنداً لها بين المشاركين في المؤتمر، ولذلك تتعرض هذه المعارضة لضغوط استثنائية من القريب والبعيد، تكاد لا تستطيع الوقوف في وجهها، إضافة إلى تشرذمها وتفرقها وتباين مواقف فصائلها.

وأخيراَ، فإن الشعب السوري الذي يدفع الثمن الأكبر ويعيش المأساة والظلم والقهر، لا يجد من ينتصر له في جنيف من القادرين على نصرته، أو من يهتم به من القادرين على الاهتمام، ومع ذلك هناك شرائح هامة وكبيرة منه ما زالت تنتظر "الترياق من العراق" والحل من جنيف، وتتواطأ مع أنفسها وعلى أنفسها، محاولة تصوير الوهم في وعيها ووعي جماهيرها إلى ما يشبه الحقيقة، في انتظار عودة غودو الذي لن يعود، وقرارات جنيف التي لن تصدر، وجميع الأطراف تنتظر معجزات لن تأتي أبداً..

لو توفرت النيات الصادقة لدى جميع الأطراف المهتمة بحل الأزمة السورية، لشكل مؤتمر جنيف - دون شك - وسيلة مناسبة وفعالة لوضع "خارطة طريق" جدية لخلاص الشعب السوري وبلده من المستنقع الذي هو فيه، ولو توفرت الجدية الكافية لدى هذه الأطراف للبحث عن حلول شاملة وموضوعية وقابلة للتطبيق، لكانت نتائج المؤتمر ذات جدوى حقيقية توصل إلى هذا الهدف.

ولكن الذي يبدو هو أن لكل طرف من هذه الأطراف رؤية مختلفة، وهدفاً خاصاً به يعطيه الأولوية الأولى.

وفي النهاية، فمثلما تحول الصراع في سوريا إلى صراع الآخرين على أرضها، سيتحول مؤتمر جنيف إلى تنافس الآخرين على توزيع قطعة الجبن السوري وامتداداته الداخلية والإقليمية، وسيتوزع الجميع قطعة الجبن هذه دون أن يبقوا للشعب السوري أي شيء يأكله أو حتى يتذوق طعمه.

وربما سيكون مؤتمر جنيف ملهاة لتسلية السوريين وغيرهم، تلهي الجميع بضعة أشهر بحثاً عن أسلوب مخدر آخر يشعر العالم بأن أصحاب الشأن يبذلون جهودهم للوصول إلى حل للأزمة.. وما الأمر في الحقيقة سوى سوق تباع فيها الأوهام وتشترى.

 

Email