التفجيرات تطال قلب بيروت

ت + ت - الحجم الطبيعي

في 27 ديسمبر 2013، أودى انفجار سيارة ملغومة بحياة الوزير اللبناني السابق محمد شطح، وقضى معه ستة شهداء وأكثر من سبعين جريحا. على الفور تتالت تصريحات المسؤولين اللبنانيين تندد باغتيال رجل الاعتدال والحوار الديمقراطي، وتدعو اللبنانيين للابتعاد عن ردود الفعل السلبية، وللتمسك بالوحدة الوطنية للحفاظ على وطنهم.

الجريمة حلقة في سلسلة طويلة من الانفجارات المستمرة، منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وأودت بحياة عدد كبير من السياسيين والمثقفين والإعلاميين في لبنان. وذلك يطرح تساؤلات كبيرة حول مستقبل لبنان واللبنانيين، في ظل الموقف المتخاذل لقادة السياسة في لبنان، الذين تقاعسوا عن القيام بدورهم الوطني تجاه شعبهم ودولتهم، واكتفوا بالاستنكار والإدانة دون الارتقاء إلى مستوى تحمل المسؤولية. وغالبا ما تم تغييب الفاعل الحقيقي، أي صاحب المصلحة الأساسية في تفجير لبنان من الداخل.

فلبنان في قلب العاصفة التي تضرب منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وتلعب فيها التحالفات الإقليمية والدولية دورا أساسيا، من خلال المشاركة المباشرة في المعركة العسكرية الدائرة الآن في سوريا، وبروز اتجاه تكفيري يعمل على تحويل لبنان إلى ساحة حرب شاملة، على غرار ما يجري في العراق وسوريا. فبات لبنان عرضة لإرهاب منظم، يهدد نخبه السياسية والثقافية والإعلامية، ووحدة شعبه ومؤسساته في دولة مستقلة وذات سيادة على أراضيها.

مرد ذلك إلى أن القيادات السياسية المتناحرة في لبنان، عجزت عن التفاهم على قانون جديد للانتخابات، فوقعت في الفراغ الدستوري، البرلماني والحكومي، وعجزت عن تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة.

لا شك في أن استشهاد الوزير شطح في قلب العاصمة بيروت، سيزيد من تأزيم الأوضاع وحدة الصراع بين القوى السياسية اللبنانية. فالجريمة الإرهابية الجديدة التي طالت عددا كبيرا من المواطنين اللبنانيين، تهدف إلى إدخال لبنان في دائرة التوتر الشديد، الذي يمنع قيام دولة مركزية على أسس ديمقراطية.

وهناك خطورة كبيرة لمحاولة بعض القوى السياسية اللبنانية استباق التحقيق القضائي، بتوجيه التهمة مباشرة إلى القوى السياسية المعادية لها، ما يهدد بإشعال فتنة مذهبية تدمر لبنان من الداخل، في حين أن العملية الإرهابية تستدعي من الجميع اليقظة وتعزيز الوحدة الوطنية، حفاظاً على لبنان في مواجهة من يستهدفون أمنه واستقراره.

وحين امتدت يد الإجرام المنظم إلى قلب بيروت، حضر العامل الإسرائيلي بقوة، لأن إعمار وسط بيروت شكل ردا لبنانيا وعربيا رائعا على مخطط إسرائيل لتدمير اقتصاد لبنان، وشطبه من المعادلة الإقليمية.

ولعب الشهيد رفيق الحريري دورا بارزا في إعمار وسط بيروت، ليؤكد بقاء لبنان وطنا حرا مستقلا. وفي ظروف اكتشاف كميات كبيرة من النفط والغاز على أراضي لبنان في مياهه الإقليمية، تبرز أطماع إسرائيل في الهيمنة الكاملة على حصة لبنان من الثروات الطبيعية، بعد تفجيره من الداخل.

كانت محصلة الاغتيال استهداف شخصية سياسية واحدة، لكنها طالت عشرات الضحايا الأبرياء وتركت خسائر مادية جسيمة، مما شكل كارثة وطنية واقتصادية كبيرة، تؤكد أن لبنان بأكمله هو المستهدف، وأن اندلاع الفتنة بين أبنائه يهز أسس الاستقرار والأمان والوحدة الوطنية فيه، ويسمح لإسرائيل بتمرير مخططها الإجرامي ضد لبنان واللبنانيين. لقد أعد الشهيد شطح قبيل اغتياله مشروعا وطنيا جامعا، للخروج من الأزمة السياسية في لبنان والاستفادة القصوى من ثرواته الطبيعية. لذا فالجريمة الإرهابية التي أودت بحياته، تؤكد هشاشة الوضع الأمني المتزامن مع شلل سياسي كبير، ناجم عن انقسام عمودي يهدد مستقبل لبنان واللبنانيين.

ومع أن الجرائم السابقة دقت ناقوس الخطر منذ زمن بعيد، إلا أن قادة لبنان لم يتوافقوا على تفعيل المؤسسات السياسية والدستورية، وعجزوا عن تشكيل حكومة المصلحة الوطنية لحل مشكلات لبنان الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان والمنطقة. لكن الانقسام السياسي الحاد دفع بعضهم إلى توجيه أصابع الاتهام ضد شركائهم في الوطن، دون النظر إلى دور إسرائيل أو تحميلها أية مسؤولية عما يجري على الساحة اللبنانية.

وفي حين استنكرت القوى السياسية جميعها في لبنان هذه الجريمة، واعتبرتها موجهة لضرب الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، تم توجيه أصابع الاتهام في اغتيال الوزير شطح إلى قوى لبنانية إرهابية، "فالذين اغتالوا محمد شطح هم الذين اغتالوا رفيق الحريري، ويريدون اغتيال لبنان.. وهم يتهربون من وجه العدالة الدولية، ويرفضون المثول أمام المحكمة الدولية، ويستدرجون الحرائق الإقليمية إلى البيت الوطني..".. علما بأن التفجير الذي أودى بحياة الوزير السابق شطح، يندرج في سياق تفجيرات متنقلة طالت ضاحية بيروت الجنوبية، وسفارة إيران، ومساجد طرابلس، ومناطق بعلبك والهرمل، وتجمعات عائلية في قرى البقاع الغربي.

لكن غياب الدولة المركزية القوية في لبنان، أو تغييبها، أسقط جميع الخطوط الحمر وأدخل لبنان في قلب الصراع الدموي الدائر في سوريا، وعلى مستوى المحاور الإقليمية والدولية التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط. لقد طال هذا التفجير، وللمرة الأولى منذ سنوات عدة، قلب العاصمة بيروت الذي تم تحييده عن الصراعات الداخلية والإقليمية، مما أعطى لمكان التفجير في وسط بيروت التجاري والثقافي والحضاري، مكانة رمزية كبيرة تضاف إلى رمزية استشهاد الوزير السابق والمثقف والمحاور محمد شطح، الذي وصف بشهيد الاعتدال.

لذلك يتخوف اللبنانيون من أن يشكل اغتياله مدخلا لصراع دموي، يطال كامل لبنان بعد أن نجح في الوصول إلى قلب بيروت، حيث الحماية الأمنية في أعلى درجاتها. وهم يتخوفون من ردات فعل مذهبية، بعيدة جدا عن مناقبيىة الوزير الشهيد وقيمه الأخلاقية النبيلة.

ختاما، إن التشنج المذهبي هو نتاج التحريض الذي تمارسه قوى سياسية لبنانية، ذات صلة وثيقة باستخبارات إقليمية ودولية تحرك قوى إرهابية دخلت لبنان بأعداد كبيرة، وهي تحضر لتفجيرات داخلية وفتن مذهبية، تدخل لبنان في دائرة الاستقطاب الإقليمي والدولي على أبواب مؤتمر جنيف الثاني.

فهل يحترم اللبنانيون مناقبية الوزير الشهيد والقيم السامية التي ناضل من أجلها لبناء لبنان الجديد على أسس عقلانية وعلمانية؟ وهل يتداعى قادة لبنان إلى التفاهم الإيجابي لحماية وطنهم من الانزلاق نحو صدامات دموية تم التحضير لها منذ سنوات طويلة لإعادة تقسيم المنطقة وإقامة الشرق الأوسط الكبير وفق أجندة أميركية إسرائيلية؟!

Email