مصر والانقسام الخطير

ت + ت - الحجم الطبيعي

يندر أن يعاني مجتمع انقساماً سياسياً حاداً كالذي سقط فيه المجتمع المصري منذ رحيل الرئيس حسني مبارك عن السلطة في فبراير 2011، وهو انقسام أفقي ورأسي، أي على مستوى الأفراد أو الجماعات المنظمة، بين التيارات السياسية بعضها البعض، بين مؤسسات المجتمع المدني والحركات الشبابية التي ليس لها كيان قانوني، مثل حركة تمرد و6 إبريل والثوريين الاشتراكيين وكفاية.. إلخ، وكلها تعمل بنفس طريقة جماعة الإخوان، خارج أي أطر قانونية سوى فرض الأمر الواقع.

ويختلف الانقسام الحاد كلياً عن تباين الرؤى والمواقف السياسية والأفكار والآراء، فهو يصنع حالة تربص سائدة، ولا يتحمل حواراً لبناء مساحات مشتركة بين الأطراف المتصارعة التي لا تتزحزح قيد أنملة عن أفكارها ولا تتفاوض على مواقفها، بينما اختلاف الأفكار والرؤية والمواقف يؤسس بالضرورة حواراً عاماً للبحث عن أرضيات مشتركة، أو نقاط توازن وتوافق بين الأفكار المطروحة، ويتيح مساحات واسعة للتفاوض، وهو ما لم يحدث حتى الآن، فكان البديل هو العنف؛ عنف معنوي وعنف مادي، عنف معنوي في سباب وشتائم وعبارات قاسية واتهامات بالخيانة والعمالة، تشي بها جدران المباني في المدن ولافتات معلقة في الشوارع وكتابات في الصحف وأوصاف زاعقة في الفضائيات.. وعنف مادي لا تخلو منه أي تظاهرة أو تجمع عام أو مسيرة، وتكاد جماعة الإخوان تحتكر أغلبه، ناهيك عن عمليات عسكرية إرهابية ضد الدولة من جماعات دينية تنتسب ظلماً وعدواناً للدين الحنيف.

المدهش أن المجتمع المصري لا يبدو مكترثاً برأب الصدع وترميم فجوات الانقسام بين تياراته وأفراده، رغم بحثه المحموم عن استقراره، كما لو أن الاستقرار يمكن أن يسقط على مصر من تلقاء نفسه في ظل هذا الانقسام الحاد! فلم تحاول مؤسسات المجتمع وتنظيماته وتياراته أن تدخل في حوار عام شامل عن الأزمة المصرية، تتوصل به إلى "قواعد مشتركة" يحافظ عليها الجميع، وتساعد على تهدئة الأعصاب المتوترة وعوارض الاحتقان التي تمسك بكل الأطراف تقريباً.

والمسألة ليست جماعة الإخوان في مواجهة المجتمع، فهذا انقسام مقدور عليه، لأنه في النهاية موضوع أقلية مهما كانت قوتها وتمويلها، في مواجهة أغلبية كاسحة، وبالطبع هذه الجماعة بكل تنظيمها العالمي، لا تملك القدرة على فرض شروطها وتطلعاتها على بقية المصريين.

وآخر أعراض هذا الانقسام بين تحالف 30 يونيو، إذا جاز هذا الوصف على كل الذين أيدوا إزاحة الإخوان عن السلطة، هو خريطة الطريق التي اتفق عليها الجميع في اجتماع 3 يوليو الماضي، وأعلنها الفريق أول عبد الفتاح السيسي على الناس.

قطاع عريض من المجتمع يرى أن الانتخابات الرئاسية قبل الانتخابات البرلمانية تقطع الطريق على عنف الإخوان، بتأسيس شرعية دستورية لرئيس منتخب عبر صناديق الاقتراع، فتفقد تظاهراتهم ومسيراتهم أسبابها تماماً، بينما الآخرون يُحذّرون من تغيير خريطة الطريق بانتخاب الرئيس أولاً، حتى لا تطاردهم اتهامات الإخلال باتفاقات وضعت في لحظة ثورية توافقت عليها القوى السياسية والمجتمعية، والأهم أن إجراء الانتخابات البرلمانية في ظل رئيس مؤقت، سيكون بمثابة ضمانة بعدم تدخل السلطة التنفيذية في الانتخابات، أما إذا أجريت في ظل رئيس دائم، فقد يتدخل الرئيس أو حزبه أو مجموعة ملتفة حوله، في هذه الانتخابات لتحقيق مصالح حزبية.

ويكشف هذا الحوار حجم الانقسام المؤثر على استقرار مصر، فالأطراف المختلفة على مدى الالتزام بتنفيذ خريطة الطريق، هي من تحالف واحد، والسؤال الذي يشغلها ليس الهدف الاستراتيجي، وهو عودة الهدوء إلى الشارع المصري وتقليل حدة العنف لاسترداد الاستقرار المفقود، حتى تدور عجلة المجتمع دوراناً طبيعياً، وإنما انحرفت إلى أسئلة فرعية: هل انتخاب الرئيس أولاً يعني الإخلال بخريطة الطريق أم لا؟ هل انتخاب رئيس يؤثر على مسار انتخابات البرلمان القادم؟ هل وجود الرئيس المؤقت هو الضمانة لانتخابات برلمانية نزيهة؟!.. وهكذا.

لم يفكر المنقسمون أن يجلسوا سوياً في حوار مفتوح، ويطرحوا الأسئلة المهمة عن المستقبل والاستقرار، وهل يمكن أن يتحمل المجتمع عدم وجود رئيس منتخب لما يقرب من عام قادم في ظل عنف الإخوان؟ هل يمكن إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في توقيت واحد؟ وإنما جل اهتمامهم انصب على كم مقعداً يمكن أن يحوزه كل طرف في ظل رئيس مؤقت ليست له مصالح في الانتخابات.

المدهش أن المستشار عدلي منصور الرئيس المؤقت، فتح باب حوار منفرد مع التيارات السياسية حول خريطة الطريق وفرصة تعديلها، وهو نفس الأسلوب الذي كان يتبعه الرئيس السابق محمد مرسي مع كل خلاف مجتمعي، بلقاء كل تيار وشخصيات على حدة، ولم يحدث أن أتت هذه اللقاءات بأي عوائد سياسية.

ويبدو أن فكرة الانتخابات الرئاسية أولاً، قد دارت في عقل المستشار عدلي منصور، وقد منحه مشروع الدستور الجديد حق تعديل خريطة الطريق، وقد بدأ بالفعل مشاوراته مع كل طرف على حدة.

لكن لا تلوح في الأفق أية بشائر لوأد هذا الانقسام الخطير.

Email