استراتيجية "من هالخشم"

ت + ت - الحجم الطبيعي

أطلق عاملا تصليح المضخات زفرة ضيقٍ وهما يجدان المصعد معطلاً، ولم يكن أمامهما سوى استخدام السلّم للوصول إلى سقف البناية وصولاً للمضخات التي تحتاج لتصليح، كان الجو حارّاً ومهمة الصعود شاقة لبنايةٍ مكونة من مئة طابق، وما أن وصلا للقمة منهكي القوى حتى قال أحدهما لصاحبه: "لدي خبرٌ حسن وخبر سيئ" ولمّا سأله صاحبه عنهما أجاب: "الخبر الحسن أننا وصلنا لقمة البناية، والخبر السيئ أننا صعدنا على البناية الخطأ"!

ما مرّر هذه القصة الطريفة ببالي قضيةٌ شائكة في عالم مؤسساتنا العربية وكأنها من أحاجي شرلوك هولمز، وربما كان لها صلة بالعقلية العربية نفسها والتي تهوى الثبات وتكره التغيير وتؤمن بأن الأمور ستعود كما كانت بقليل من الصبر وعدّة فناجين من القهوة.

وتلك القضية ببساطة هي منهجية حل المشكلات أو تغطية نواحي القصور، والتي إمّا أن يتم حلّها بطريقة سطحية لا يتم التعمّق في مسبباتها الحقيقية أو صواب حلّها المختار كحال عاملي التصليح، أو أن يتم التغاضي عنها وتجاهلها وزجر وتوبيخ كل من يستمر في التنبيه عليها على أمل أن تحل تلك المشكلة نفسها بنفسها أو منعاً لأن ينتبه إليها أحد المسؤولين الكبار فيطير صاحب الكرسي وكرسيّه معه!

ليس عيباً أن يحدث خطأ وليس بغريب أن تطرأ مشكلة، فما دام العمل مستمراً والعالم من حولنا في تغيّرٍ دائم فمن الطبيعي أن يحدث قصور للإجراءات الحالية غير المحسّنة أو عدم توافق المخرجات الحالية مع متطلبات المجتمع الذي نعيش فيه لاختلاف المعطيات ونشوء مؤثرات جديدة لم تكن موجودة سابقاً، ولكن العيب الذي يزعج فعلاً ألا يتم البدء بوضع حلول استباقية للمشكلات التي قد تطر..

وإن طرأت و"طاح الفأس في الرأس" ألا يتم الاعتراف بوجودها كالمنكر لوجود الشمس لمجرد أنه يغمض عينيه عن نورها الوهاج، وإن اعترف بعد جهد بوجود مشكلة فعلية ألا يتم البحث عن أسبابها الجذرية الحقيقية وليس البحث عن أسبابها الظاهرية ومحاولة تقديم أي كبش فداء من صغار الموظفين، وفي الغالب يكون ذلك المضحّى به من الشباب المبدعين الذين يزعجون أصحاب العقول المتحجرة ويكشفون بطرحهم ونقاشاتهم مقدار الفراغ الذي تمتلئ به تلك الجماجم!

أولئك الذين يبحثون عن الأسباب الظاهرية ويعالجون قشور المشكلة فقط، يفعلون ذلك بُعداً عن وجع الرأس وحتى يقول المسؤولون أن المدير الفلاني قد قام بما عليه للإصلاح وتعديل ما يحتاج لتدخل، وهو ذلك العلاج السطحي الذي يكون قد سبقته خطة استراتيجية فريدة من نوعها يتم اختصارها في جملتين شهيرتين هما: "من هالخشم" و"فالك طيب"، لنكتشف لاحقاً أن تلك الحلول التي تعالج الظواهر فقط قد زادت من حدّة المشكلة بمرور الوقت أو وهو الأسوأ- قد ساهمت بإحداث مشكلة أخرى بجانب المشكلة الأصلية تماماً كالطبيب الذي يصف دواءً خاطئاً لمريض، فلا المرض الأصلي يذهب ولا الجسم يسلم من مضاعفات استخدام دواء لا داعي له!

إنّ التساهل في التصدي للمشكلات أو عدم التعامل بجدية مع نواحي القصور المؤسسي يفقد المؤسسة فرصاً كثيرة للنجاح ويحرم المجتمع المحلي من تكامل الخدمات وتحسين نوعيتها فضلاً عن سوء استغلال الموارد المتاحة وإشاعة جوٍ من اللامبالاة وعدم الاكتراث بتحسين الخدمات لدى الموظفين..

وكم هو مؤلم ومخجل أن نرى تسابق البعض حتى لا نظلم المنتجين ومحدثي الفارق- لا لحل المشكلة وإنما للبحث عن كيفية إخفائها وجعلها غير ظاهرة للعيان في المرات المقبلة إن كان هناك ثمّة تقييم خارجي، ثم يكتمل ذلك بالمراهنة على الوقت لكي ينسى المسؤولون حجم القصور في عمل تلك المؤسسات ثم يعقب ذلك بالبدء بحملات تلميعٍ إعلامية ٍمدفوعة لإيهام الآخرين أن المؤسسة وأمورها على خير ما يرام وأنّ التقييم المحايد وتحفظاته لم تكن سوى خطأ أو ترصّد كيدي لهذه المؤسسة!

ما تحتاجه هذه المؤسسات فعلاً أن تترك بعض الهواء النقي ينعش ذهنيتها اليومية وأن تقوم بعد ذلك بعمل مراجعات فعّالة لخطوات إجراءاتها أو مسار مبادراتها للتأكد من اتساق ما يحدث مع البرنامج الزمني المحدد ومع الطريقة التي يجب أن تجري بها الأمور والجودة التي تتحقق بها النتائج، على أن تكون هذه المراجعات أسبوعية أو شهرية كأقصى حد، أمّا انتظار نهاية فترة المشاريع أو انتهاء السنة المالية فحينها سيكون الوقت متأخراً للغاية لإصلاح أي انحراف والذي لن يتأتّى إلا بإهدار وقت طويل من جديد وتكلفة مادية وبشرية ومالية كان بالإمكان توفيرها لسلسلة مشاريع أخرى!

يقول ألبيرت آينشتاين: "لو أُعطيت ساعة لإنقاذ الكوكب، فسأخصص 59 دقيقة لتوصيف المشكلة بدقة ودقيقة واحدة للحل"، وربما لو كان متواجداً في بعض المؤسسات لدينا لخصص الساعة بأكملها لإقناع المدير بأهمية الاعتراف بوجود مشكلة أو قصور وأن العيب في المكابرة والتعامي وليس في الوقوع في الخطأ، وأن أداء الأمانة والمحافظة على الصالح العام أهم بكثير من المحافظة على "البرستيج" الشخصي والبحث عن ملمّعات من هنا وهناك لتثبيته على الكرسي، وكم سيكون مثمراً أن يوجّه جهد إخفاء المشكلة إلى محاولة حلّها حتى لا يجد نفسه على سقف البناية الخطأ!

 

Email