«إكسبو 2020».. دلالات ومآلات

ت + ت - الحجم الطبيعي

قيادة الشعوب عبر التاريخ تحدد نوعية المعارك التي تقرر خوضها، وهم في ذلك صنفان، منهم من تكون معارك الهدم والحرب والكراهية، هي المجال الذي يروق له ويجد نفسه فيه، وبه يستمر حكمه ويطول بقاؤه، ولكن على جثث أبناء وطنه وأشلاء من كان ينبغي أن يكون أميناً عليهم، وهو في هذا متسق مع نفسه، لأنه في الواقع عاجز عن التعامل مع هموم أبناء شعبه أو تقديم البديل لواقع مظلم، وفقر مدقع.

وتعليم تخلف عن لغة العصر، أو تلبية متطلبات التنمية، أو توفير سكن يليق بكرامة الإنسان، أو رعاية صحية تجعل المواطن لا يعجز عند مرضه، واكتفى هو بالاستمتاع بالسلطة التي لا يرى فيها غير ذاته، وهنا يكون الخروج من هذا العجز بإشاعة الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، على غرار "فرق تسد"، وإشغالهم بأنفسهم دونه، أو افتعال عداوة خارجية يتم التركيز عليها وتؤجل كل الاستحقاقات حتى في حدودها الدنيا، تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ثم ما تلبث تلك الجولة أن تنتهي حتى تبدأ جولة جديدة من المعارك أو افتعال العداوات، لتؤجل أحلام الشعوب حتى تعجز عن القدرة حتى على الحلم.

على الجانب الآخر، هناك نوع من القيادة يشعر بعظم المسؤولية التي أوكلت إليه، ويرى أن معركته الحقيقة هي معركة البناء والنماء، وأن عدوه الحقيقي هو التراجع والمرض، وكل ما يحول دون انطلاقة شعبه في طريق العزة والكرامة والنماء، وهي بذلك اختارت الطريق الصعب، فما أسهل الهدم، ولكن ما أصعب البناء. قيادة ترى أنها مؤتمنة على مصير شعب ومستقبل أجيال، وأن هيبتها وقوتها ومكانتها تأتي من محبة شعبها..

هكذا كانت وما زالت، وستبقى بإذن الله، قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة، التي كان تحديها الأكبر في إقامة دولة تحكي مسيرتها قصة شعب تغلب على التحديات، وصنع في ظل قيادة صدقته ملحمة البناء، التي باتت أنموذجاً ينظر إليه العالم باحترام وتقدير كبيرين، فكان فوز دبي باستضافة هذا الحدث الكبير تتويجاً لسنوات من العمل الدؤوب.

فوز دبي بتنظيم "إكسبو 2020"، هو نتاج نهج في القيادة ببث الأمل في نفوس الشعب، وأن الغد أفضل، والقادم أحسن، والمستقبل نحن نشارك في صناعته. قيادة تبث الثقة كل صباح في نفوس أبناء الوطن بأنهم الثروة الحقيقة، وحين رفعت علامة النصر كانت بذلك تعبر عن واقع حقيقي، وليس مجرد أمنيات.

إن فوز دبي باستضافة "إكسبو 2020" يعطينا دلالة مهمة على أهمية التخطيط الدقيق، وأن المقدمات الجيدة، لا بد أن تؤدي إلى نتائج صحيحة، كما أن النجاح لا يتحقق بالعشوائية. ما تحقق على أرض الإمارات عبر عقود، كان ملحمة للبناء، تؤكد أنه ليس الفضل دائماً لمن سبق، ولكن الفضل لمن صدق في حب وطنه، فكان له السبق والنصر في وقت معاً، وهذا الفوز المشرف، لهو نتيجة منطقية لثقافة التميز، التي أشاعتها القيادة بين المؤسسات الحكومية والأهلية، وأن لا بديل عن المركز الأول والرقم واحد، لأن العالم لا يعرف من يأتي في المركز الثاني.

إننا نحب أوطاننا كما نحب أمهاتنا، وليس لنا في ذلك خيار، ومن لا يشعر بتلك العاطفة الوطنية، فهو مريض يحتاج إلى طبيب، كمن يعق أمه، غير أن العالم من حولنا لا يعرف تلك اللغة، ولا يبني خياراته إلا على الحقائق والمزايا التي سيحققها، لذا، فإن التصويت لم يكن على استضافة دبي لـ "إكسبو"، بقدر ما هو تصويت على واقع متين، توقف عنده العالم بكثير من الإعجاب.

وضع أساسه رجال خلد محبتهم شعبهم، ومستقبل يحمل آفاقاً كبيرة مهيأة لتحقيق مزيد من النجاحات، عبرت عنه مقاييس التنافسية العالمية، حين احتلت بلادنا المركز الأول عالمياً في مؤشرات الكفاءة الحكومية والترابط المجتمعي، والمرتبة الرابعة عالمياً والأولى إقليمياً في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال، والمركز الرابع عالمياً في الأداء الاقتصادي، والثامن عالمياً في الأداء العام، كما جاءت في المركز الأول عربياً والرابع عشر عالمياً في تقرير الأمم المتحدة لمؤشر السعادة والرضا بين شعوب العالم لعام 2013.

"إكسبو" ليس فقط أكبر معرض عالمي يقام كل خمس سنوات، بل هو التقاء لثقافات العالم بإبداعاتها وإنتاجها الفكري، لتتلاقح الأفكار وتمتد الجسور وتتشابك الأيدي لصنع مستقبل أفضل لأبنائنا، للتنافس ليس في ميدان الحرب والقتال، ولكن في ميدان العلم والفكر، الذي ييسر حياة الناس، ويفتح لها أبواب الخير والنماء.. وتلك سيمفونية طالما عزفت ألحانها دبي، ورسالة بناء وتسامح كتبها قادتها منذ كان الاتحاد حلماً والإمارات متصالحة، وهل تحقق الخير للبشرية وقامت الحضارات إلا عبر التبادل الثقافي والفكري!

إن "إكسبو"، الذي تمتد فعالياته لمدة ستة شهور، بحضور أكثر من 180 دولة، لا تقتصر آثاره فقط على الجوانب الاقتصادية، بل إن آثاره الإنسانية كانت حاضرة دائماً في كل البلاد التي احتضنته، فاختراع التليفون، وبرج إيفل كلها خرجت من عباءة "إكسبو"، كما أنه من المتوقع أن يزور دبي خلال "إكسبو" 30 مليون سائح، ليرى العالم ما تحقق على أرض الإمارات في زمن قياسي، يشهد على رجال قهروا المستحيل، واستطاعوا الفوز أمام قوى كبرى إقليمية ودولية، بشرف واقتدار.

المشهد الآخر الذي لا يقل في روعته عن الفوز باستضافة "إكسبو 2020"، هو كيف أن أبناء الإمارات على قلب رجل واحد، وأن الإمارات أصبحت درة التاج للمنطقة العربية، التي شارك أبناؤها من مختلف الأقطار، أبناء وطننا فرحتهم، وهو من أهم الآثار الإنسانية لهذا الحدث الذي وحد الشعور العربي، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى التلاحم والتعاضد.

في تقديري أن آثار فوز دبي باستضافة "إكسبو" ستمتد إلى شعوب منطقتنا العربية، بدفعهم إلى بذل مزيد من التركيز على البناء لا الهدم، وعلى التوحد لا الفرقة، وعلى التعمير لا التدمير، وأن المستقبل لن يحمل لنا من خير إلا بمقدار ما نبذله من جهد في الحاضر، فما نزرعه اليوم هو ما سنجني ثماره غداً، وستصبح معركة البناء هي المعركة المقبلة في شتى الأقطار العربية، فمن يزرع الحنظل لا يجني العنب.

Email