توجهات أميركية جديدة في الشرق الأوسط

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصبحت القناعة متوفرة لدى السياسيين والمراقبين والصحافيين، بوجود توجهات أميركية جديدة في الشرق الأوسط، بشكل واضح وصادم أحياناً. فالرئيس أوباما لم ينفذ أي شيء مما وعد به العرب في خطابه في القاهرة في يونيو 2009، فبعد أن كان ضد الاستيطان في ذلك الخطاب، أصبحت سياسته خرساء تجاهه، وبعد حماسه لحل الدولتين في فلسطين، ما لبث أن تجاهله...

وقد عبر عن حماسه لتطبيق الديمقراطية في البلدان العربية فأدار ظهره لها، هذا فضلاً عن خطوطه الحمراء تجاه ما يجري في سوريا، وتجاه السياسات الإيرانية الإقليمية والنووية وغيرها.. ويبدو أن هذه السياسة ليست نتيجة تردد أو قصر نظر أو سوء رؤية. وربما يصح وصفها بأنها نتاج مرحلة انتقال من حال إلى حال، وهذا أكثر صحة وأصدق من وصفها بالتردد.

يبدو أن الإدارة الأميركية تبنت فعلاًَ سياسة جديدة تجاه الشرق الأوسط، وبدأت تنفيذها دون إحداث صدمة أو استعراض قد يثير ردود أفعال سلبية.

وتتمثل ملامح هذه السياسة بإعادة التقسيم الوظيفي بين دول المنطقة غير العربية، وتحديد مناطق نفوذ جديدة لهذه الدول، وتشكيل شرق أوسط جديد يتواءم مع هذه السياسة، التي سيكون العرب، أنظمة سياسية وشعوباً، هم الخاسرون الرئيسيون فيها لحساب إسرائيل وتركيا وإيران، وهي الدول ذات النفوذ إقليمياًَ.

تقضي توجهات السياسة الأميركية المقبلة، بتسهيل توسيع النفوذ الإيراني في منطقة الخليج وأفغانستان، ومساعدة إسرائيل في فرض هيمنتها على بلاد الشام، وإبقاء مصر حيادية ومحيّدة تجاه محيطها وعمقها العربي، وإشغالها بقضاياها الداخلية عن الاهتمام بما هو خارج حدودها، ومساعدة تركيا على مد نفوذها بشكل أوسع وأقوى في دول وسط آسيا (السوفييتية سابقاًَ).

وبذلك يتكرس النفوذ الإقليمي لإيران وإسرائيل وتركيا، وتكون السياسة الأميركية من وراء الجميع وفوق الجميع، وتبقى مصالحها محفوظة من جميع هذه القوى، دون أن تخسر جندياً واحداً أو دولاراً واحداً، وتنزع عن كاهلها الانشغال بالقضايا العربية المعقدة القائمة الآن، وتتخلص من تسخير الجيوش ودفع مئات مليارات الدولارات التي أصبحت ترهق ميزانيتها وتربك اقتصادها.

تتأكد هذه الافتراضات من خلال مظاهر وإجراءات عديدة، اتخذتها السياسة الأميركية في السنتين الأخيرتين. فقد وقفت متفرجة على آلام الشعب السوري وعنف إجراءات النظام ودمويته، على أمل أن يدمر السوريون بلدهم دون أن تتدخل.

وقد سرب بعض موظفي وزارة الخارجية الأميركية مؤخراً لبعض السياسيين السوريين، أقوالاً أصروا على أنها "آراء شخصية"، مفادها أن حل الأزمة السورية يرتبط بتعهد قادة المعارضة (ولو كان تعهداً سرياً)، بألا تكون سياسة النظام المقبل تجاه إسرائيل معادية، بل أن تكون حليفة وصديقة تقبل بالمصالح الإسرائيلية وبالنفوذ الإسرائيلي في بلاد الشام. وهذا في حدود ما أعلم - رفضه المعارضون السوريون رفضاً باتاً.

ويشاع من طرف آخر، أن "الغزل" الإيراني الأميركي الجديد، هو تمهيد لاتفاق بين الطرفين، عرضت السياسة الأميركية مشروعه على إيران في محادثاتهما السرية، ومع أن إيران لم ترفضه ولم تقبله، في انتظار أن تعرف بدقة مستقبل نفوذها في سوريا وفي لبنان أمام الهيمنة الإسرائيلية المقبلة، وهل ستكون شريكاً أم مسكوتاً عن مصالحها؟

أم ستخرج من البلدين صفر اليدين، ويتراجع نفوذ حزب الله ليصبح حزباً لبنانياً سياسياً فحسب؟ وهذه المصالح يمكن معالجتها على أية حال، وصولاًَ إلى تسوية تقبلها إيران. أما تركيا فلا منازع لنفوذها المقترح الذي يعني إبعادها عن البلدان العربية، وعليها فقط ألا تهدد المصالح الاستراتيجية الروسية في هذه المنطقة، باعتبارها حزام روسيا الجنوبي ونقطة انطلاقها إلى آسيا، إضافة لوجود قاعدة إطلاق الصواريخ الفضائية فيها.

يقال إن هذه التوجهات الاستراتيجية الأميركية الجديدة، لا تلاقي إجماعاً من قبل مراكز اتخاذ القرار الأميركي (البيت الأبيض، وزارة الخارجية، والبنتاغون) والجهات المؤثرة فيه (الكونغرس، مراكز الدراسات، منظمات المجتمع المدني)، لأن رئيسة مكتب الأمن القومي ومكتبها لا يؤيدان هذه الاستراتيجية، وتتحفظ عليها وزارة الدفاع الأميركية، خوفاً من أن تؤدي إلى ترحيل قواعدها العسكرية في المنطقة وإلغاء وجودها فيها..

وبالتالي، تجريدها من مواقع قوة هامة قريبة من طرقات مرور النفط ومن حدود روسيا. يلاحظ المتمعن في هذه التوجهات المقترحة - إن صحت - أن البلدان العربية هي الخاسر الأكبر من تطبيقها، وأنها ستكون بالضرورة بلداناً تابعة إلى أمد مقبل طويل، بسبب هشاشة معظم أنظمتها السياسية وتناقضاتها الحالية، فضلاً عن تنامي إنتاج النفط من الصخور الزيتية في الولايات المتحدة..

حيث بلغ الإنتاج الأميركي منه هذا العام ما يساوي الكميات المستوردة، ما يهدد بتراجع قيمة النفط العربي وأسعاره، وهو السلعة الأساسية التي تشكل مصدر القوة للمنطقة العربية ومصدر دخلها الرئيس.

 

Email