عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، يغادر الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا دار الفناء إلى عالم البقاء، وفي رحيله كما في حياته دروس وعبر ومواعظ لرجل عاش إنسانيته، تلك التي جعلته بالفعل عظيماً في عيون العالم، قديساً ربما في عيون شعبه، رمزاً للانتصار على الذات وتجاوز شهوة الانتقام من جلاديه.

قصة حياة مانديلا تؤكد أن الخير في الإنسانية أصيل مهما بدا الشر غالباً أحياناً، غير أن فصولاً بعينها عن حياة الرجل غابت عن أعين الكثيرين، ومنها سجنه الطويل.. والسؤال، من كان وراء تسليم مانديلا للحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا؟

في كتابه المثير "الدولة المارقة"، يخبرنا الكاتب الأميركي "وليام بلوم" بما لم يخبر به أحد من قبل.. المخابرات المركزية الأميركية هي التي كانت وراء اعتقال الرجل.

مثير جداً للعوام مشهد الازدواجية الأميركية، وهو غير ذلك عند أهل الاختصاص، فالرئيس أوباما يتحدث عن نيلسون مانديلا عشية رحيله، بوصفه "الزعيم الذي ترك لنا إرثاً من الحرية والسلام..

وأضحى مصدر إلهام للعالم"، وقبله بسنوات طوال، وتحديداً يوم الإفراج عن مانديلا، خاطبه جورج بوش الأب هاتفياً ليخبره بأن "كل الأميركيين مبتهجون لإطلاق سراحه".. وبين أوباما وبوش كانت الحقيقة، وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، هي الجهة التي زودت سلطات جنوب أفريقيا بالمعلومات السرية عن المكان الذي يمكن أن تجد فيه مانديلا.

هل كان مانديلا ضحية الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي في أفريقيا، ولهذا تمت التضحية به على مذبح صراع الحرب الباردة الدائرة في ذلك الوقت؟

المعلوم أن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي هو حزب مانديلا، كان قد تحول في جنوب أفريقيا إلى حركة وطنية تقدمية، كان نفوذها محسوباً ومحسوساً في البلدان الأفريقية الأخرى المجاورة، وبالتالي، فقد رأت واشنطن أنها جزء من المؤامرة الشيوعية الأسطورية، فكان لا بد من قطع الطريق على الحركة التحررية، عن طريق قنص رموزها، وفي المقدم منهم مانديلا.

هل من أسباب أخرى كانت تعمق العلاقة الأميركية الجنوب أفريقية حينذاك؟

بالقطع، كان هناك مكون آخر في قدر الطبخ الذي تأكل منه الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا كلتاهما، وهو أن الأخيرة عملت كمصدر لليورانيوم الهام جداً للولايات المتحدة، ولهذا كانت واشنطن أكبر مساند في الأمم المتحدة للنظام العنصري في جنوب أفريقيا.

كان التعاون بين إدارة المخابرات في جنوب أفريقيا وبين المخابرات المركزية الأميركية، عطفاً على وكالة الأمن القومي، في أعلى درجاته في أوائل الستينيات، ولهذا، كان من اليسير أن يسلم الأميركيون مانديلا لسلطات الفصل العنصري في البلاد..

كيف جرى ذلك؟

في 5 أغسطس 1962، أوقفت الشرطة المسلحة عند متراس على الطريق خارج هاويك/ ناتال، سيارة يقودها مانديلا الذي كان مطارداً لمدة سبعة أشهر، وقد تقمص وقتها شخصية سائق لراكب أبيض في المقعد الخلفي..

كيف علمت الشرطة بخط سير مانديلا؟

في عام 1986 بدأت خيوط القصة تتكشف في صحافة لندن تحديداً، وجزئياً في محطة تلفزيون CBS، وتناولت دور مسؤول مخابراتي أميركي كبير اسمه "دونالد ريتشارد" كان يعمل تحت ستار مستشار رسمي في ديربان، في تقديم معلومات سرية لفرع الأمن الخاص بأن مانديلا سيتخفى كسائق في سيارة متجهة إلى ديربان، وقد حصل ريتشارد على هذه المعلومات من واشٍ في حزب المؤتمر الأفريقي.

بعد ذلك بعام، أي في عام 1963، وفي حفل وداع له في جنوب أفريقيا، وفي منزل المرتزق سيئ السمعة عميل المخابرات المركزية الكولونيل هوار، المسمى "الميكروفون المجنون"، ذكر ريتشارد نفسه على أسماع بعض الذين كانوا حاضرين، أنه كان مفترضاً أن يقابل مانديلا في الليلة المشؤومة، لكن بدلاً من ذلك أبلغ الشرطة.

هل اعترف الأميركيون تصريحاً أو تلميحاً بمسؤوليتهم عن سجن مانديلا ومعاناته الطويلة؟

في العاشر من يونيو عام 1990، أوردت صحيفة "أتلانتا جورنال آند كونستتيوشن"، أن مسؤولاً متقاعداً في المخابرات الأميركية، لم تحدد هويته، كشف أنه خلال ساعات من اعتقال مانديلا، أخبره "بول آيكل"، وهو عميل كبير في وكالة المخابرات المركزية الأميركية، ما نصه: "لقد سلمنا مانديلا إلى فرع الأمن في جنوب أفريقيا، لقد قدمنا لهم كل التفاصيل، ماذا يرتدي، الوقت المحدد من النهار، المكان الذي يوجد فيه على وجه الدقة، واعتقلوه، وكانت تلك واحدة من أعظم ضرباتنا".

لماذا لم يتحدث مانديلا بعد الإفراج عنه بشأن من تسبب في اعتقاله، لا سيما وأن كل ملفات الدولة العنصرية، بما فيها ملف القبض عليه واعتقاله، كانت رهن يديه؟

ربما لأنه بالفعل الرجل الذي تجاوز شهوة الانتقام إلى الحقيقة والمصالحة، كي يعيد بناء دولته على أسس من الصفح والغفران.

عقب إطلاق سراحه، وفي مناسبة لقائه مع بوش الأب، تساءل البعض هل سيعتذر له الرئيس الأميركي عما تسببت فيه بلاده له من مهانة طويلة؟

يومها قالت "مارلين فيتزووتر" المتحدثة باسم البيت الأبيض: "لقد حدث ذلك خلال إدارة كينيدي. لا تحاسبني عما فعلته زمرة كينيدي".. هل كان هذا اعترافاً ضمنياً بالمسؤولية الأميركية؟

يرحل مانديلا الرمز، وتبقى ذكراه، في حين تتراجع مكانة أميركا الأدبية والأخلاقية حول العالم، وخاصة عندما تفتح دفاتر ماضيها.. فهل تتعظ لمستقبلها، أم أن آفتها هي أيضاً النسيان؟