«اكسبو» وحمدانيّة بو شهاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما كانت الثواني تمر ثقيلة الخطى والأعين تتسمّر على شاشة التلفاز والصمت يلف كل مجلسٍ في الإمارات في انتظارٍ لما ستتكشّف عنه ترشيحات المدينة التي ستحظى بتنظيم معرض اكسبو 2020، أتتني رسالةٌ هاتفية من "بو شهاب" بعد خروج مدينة ساوباولو البرازيلية من الجولة الأولى أمام دبي يقول فيها ممازحاً: "سجِّل يا تاريخ .. أخرجنا البرازيل من الدور الأول!" في اسقاطٍ جميل على منتخب البرازيل الذي لم يغب عن نهائيات كأس العالم إطلاقاً ومازال بعبعها الأول على الدوام.

لم نُخرج البرازيل فقط، بل لحقتها بقية المنافسات: ايكاترنبرغ الروسية وإزمير التركية وفازت دبي بفارق يختصر كل المعايير ويُنبئ بتفوقٍ غير مسبوق عندما حققت في الجولة الثالثة الحاسمة مع نظيرتها الروسية 116 صوتاً من أصل 165 صوتاً، وربما لو انتظر "بو شهاب" قليلاً لكتب: "سجّل يا تاريخ فقد أخرجنا البرازيل وهزمنا الروس في النهائي بالقاضية"..

ولا أقصد هنا التقليل من شأن المنافسين وإنما أُساير جو الطُرفة من جهة وأضع من جهةٍ أخرى في بطني "بطيخة صيفي" ثقةً بقدرة دبي وإمكانياتها الهائلة وسمعتها المدوية في عالم الأعمال ودنيا المعارض والتي لم تتأتَ من فراغ وإنما كانت نتيجة جهدٍ مضن يسبقه تخطيط واع ويُحرّكه طموح لا يهتز بكثرة العراقيل.

ولا يخبو أواره بأصوات المشككين وصفحاتهم الصفراء ويسنده "وهو الأهم" متابعة ومحاسبة لا تعرف التأجيل أو التأويل لمنع انحراف المسار أو تقبّل مشي "الهُوينى" الذي يروق لبعض المترددين، فالقطار لا يمكن أن يُحافظ على سرعته إن كانت إحدى مقطوراته تعاني من خللٍ مُبطئ في عجلاتها أو تضغط دواسة الفرامل وحدها.

كان الاختيار بمثابة رد اعتبارٍ عالمي رسمي لكل من شكّك في تجربة دبي الرائدة واستغل الأزمة الاقتصادية العالمية لكي يطعن في كل انجازاتها لغايةٍ في النفوس السوداء والذين أرّق مضاجعهم ذلك الصعود الصاروخي لتلك المدينة العربية التي لا تزيّن سماءها الكاتدرائيات وإنما يلثم بهجة صباحاتها شموخ المآذن، ولا ترفل بطرقاتها العيون الزرقاء وإنما تبني لَبِناتها السواعد السمراء والوجوه المتوضئة..

والتي تُكذِّب كل يوم أقاصيص المغرضين عن أسلوب الحياة فيها بتناغمٍ جميل بين جميع الأطياف التي أتت، ليس بحثاً عن لُقمة العيش فقط وإنما، طلباً للكرامة والإحساس بقيمتها كبشر بعد أنْ عَدِمَتْ ذلك في أوطانها، فمرّت سنين الأزمة العجاف وعادت دبي لِتُرْغِمَ كل تلك الأبواق النشاز لنشر خبر اكتساحها المذهل للتصويت العالمي ولِتَرُدّ بطريقتها الخاصة على المتكسبين وراء التهجّم عليها، طريقة تدع الانجاز يتحدث وحده دون رغيٍ أو تطبيلٍ أو مساومات.

كنت أمرّ في أواخر ليلة الفوز بموقع تويتر ولفت انتباهي تغريدة لكاتبٍ سعودي جميل قال فيها وعَنى بها الكثير: "أهلاً، أنا عبدالله من ديرة جنب دبي"، ايجاز يحوي بين ثناياه الاسهاب عمّا أصبحت تعنيه دبي وكيف رفعت سقف المقاييس عالياً بطريقة أصابت الكثيرين بآلام في الرقبة..

وكم أثلجت صدري بقية الردود من إخوة خليجيين يقول أغلبهم إنه يُخبر الأجانب أنّه من دبي أو قرب دبي حتى يعرفوا من أين أتى، فقد أصبحت دبي معلماً انسانياً وحضارياً وجغرافياً على صرح المدنيّة الحديثة....

ومن ظنّ أنّ هذا أمرٌ ليس بالصعب فقد جانب المنطق وخدع نفسه، فالنجاحات العظيمة والمتلاحقة تحتاج لبناء متماسك وفكرٍ متّقد وتخطيطٍ مُلهم وجهود لا تعرف التواني أو التأجيل أو "نأخذ بعضاً ونترك بعضا"، وخلق هذه الصورة اللافتة في أذهان البشر على اختلاف أقطارهم لا يحتاج أن تكون على المسار الصحيح بل أن تكون أنت ذاك المسار وهذا ما فعلته الفاتنة دبي!

في ليلة الابتهاج كان عرّاب الانتصار "بو راشد" حفظه الله يضرب أمثلة للذكرى عن تعامل الكبار، فبعد أنّ هنأ شعب الإمارات وقياداتها بادر بتهنئة العالم بهذا الاختيار مؤكداً أنّ دبي ستقدّم أفضل دورة في تاريخ المعرض ومعيداً ذات الوعد السابق للدنيا بقوله: "وعدنا العالم أننا سنبهره واليوم نؤكد وَعدَنا"..

فلا مكان للشعارات البراقة والتي تطرح للاستهلاك قبل الانتخابات أو الاختيارات في قاموس دبي، بل الوعد هو مقياس النجاح لديها، ولئن أطنب منظّرو الإدارة في أهمية "أن تَعِدَ بالقليل وتحاول أن تُقدّم الكثير" حتى لا ترهق التوقعات أصحاب المبادرات، فإن "بو راشد" ودبي معه لا يؤمنون إلا بالوعد بالكثير ثم تجاوز ذلك الوعد بأكبر منه، فلا فائدة أن تتفوّق على نفسك فقط بل لا بد أن تتفوّق على الجميع فصاحب المركز الثاني هو أكبر الخاسرين وفرقٌ كبير بين أن تكون "لست أقل منهم"..

وأن تكون "أفضل عنهم"، ثم تجلى رُقي المنتصر عندما شكر "بو راشد" المدن الثلاث المنافسة لدبي وامتدح ندّيتها وتنافسيتها العالية ثم دعاها لتُشارك شقيقتها دبي "لانجاح أهداف المعرض السامية لخلق مستقبلٍ أفضل للبشرية دون تفرقةٍ أو تمييز".

العائد الاقتصادي سيكون كبيراً بإذن الله تعالى على الإمارات عموماً ودبي على وجه الخصوص، حيث يُتوقّع أن يُدر المعرض قرابة 139 مليار درهم وأن يخلق 280 ألف وظيفة في الفترة من 2013 إلى 2020 وأن يؤم فترة تنظيمه والمقدّرة بستة أشهر ما قد يصل لخمسة وعشرين مليون زائر وأن تحدث طفرة لسوق العقارات شبيهة بنمو سوقها بشنغهاي خلال اكسبو 2010 بنسبة 68%، فضلاً عن القيمة الوطنية الكبيرة له حيث سيتزامن تنظيمه مع احتفالات الدولة بيوبيلها الذهبي بمرور خمسين عاماً على قيام الاتحاد.

أعود لقراءة رسالة إخراج البرازيل، استلذ الأريحية وهدوء الأعصاب لبو شهاب في تلك اللحظات التي يقلق منها القلق وأتذكّره بنفس الهدوء والثقة وهو يكتسح فرسان العالم عام 2002 بإسبانيا ليصبح أصغر بطل للعالم وليعتلي منصة الفوز بكندورته العربية وحمدانيّته وبيده اليمنى ترتفع راية الإمارات، ولا غرابة في ذلك فهو ابن "بو راشد" الكبير!

 

Email