مسلسل التفجيرات يهدد بقاء لبنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أن فتحت معركة القلمون على الجانب السوري، تدفقت موجات جديدة من النازحين السوريين إلى المناطق اللبنانية، فزاد حجم تواجدهم في لبنان، ويتوقع أن يصل عددهم إلى ما يقارب نصف سكان لبنان، في حال احتدمت المعارك في مناطق القلمون التي يزيد عدد سكانها على المليون نسمة، مما يطرح أعباء إضافية على الساحة اللبنانية، التي ما انفكت تشهد سجالات عقيمة بين قيادات سياسية فاشلة، لا تستطيع التلاقي أو التوافق على الحد الأدنى من تحمل المسؤوليات الوطنية والإنسانية.

لكن التفجير المزدوج الذي استهدف مقر السفارة الإيرانية في بيروت في 19 نوفمبر 2013، أدخل لبنان في مرحلة جديدة مرشحة للتصعيد بعدما تبناه تنظيم القاعدة. وقد فسره المراقبون بأن القاعدة وجهت رسالة مباشرة إلى إيران وحليفها "حزب الله" في لبنان، مفادها أن قواعد اللعبة هي الآن قيد التغيير، فلم يعد بالإمكان تحييد لبنان مع المشاركة في القتال إلى جانب النظام في سوريا ومواجهة التكفيريين فيها. وأنها هي من تحدد قواعد الصراع في لبنان وسوريا معا، وقادرة على تحويل البلدين إلى مسرح عمليات يومية.

دلالة ذلك أن إعصارا مدمرا يقترب من لبنان، وستزداد قوته التدميرية مع تفاقم الصراع العسكري في سوريا، وستكون للسيطرة على منطقة القلمون تداعيات كبيرة على الساحة اللبنانية. أي أن التفجير الإرهابي المزدوج ضد سفارة إيران في بيروت، يندرج ضمن سلسلة من التفجيرات تقود إلى عرقنة لبنان، وإضعاف "حزب الله" لمنعه من المشاركة في القتال إلى جانب النظام السوري، ولتشكيل رأي عام لبناني ضاغط لتحييد لبنان عن الصراع العسكري الدائر في سوريا، وهناك مؤشرات عدة تؤكد هذا المنحى.

أولا: سادت اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، الذي انعقد في القصر الجمهوري في 20 نوفمبر 2013، أجواء مقلقة، نظرا للصعوبات الكبيرة التي تواجه الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية، وهي عاجزة عن ردع قوى إرهابية تهدد أمن لبنان واستقراره، في ظروف انكشاف سياسي فاضح، مع استقطاب حاد بين قوى داخلية متناحرة وتعكس خيارات متناقضة إقليميا ودوليا.

ثانيا: أكدت وزارة الشؤون الاجتماعية أن منطقة عرسال وجوارها في البقاع الشرقي، شهدت نزوح آلاف العائلات السورية، مما دفع الوزارة إلى استنفار قدراتها المحدودة لتقديم مساعدات شحيحة، بالتعاون مع مفوضية الأمم المتحدة للاجئين.

ورفع وزير الشؤون الاجتماعية مسألة النزوح المتزايد بعد فتح معركة القلمون، إلى مرتبة الأزمة السياسية التي تتطلب حلا سياسيا وليس فقط إنسانيا. فعدد اللاجئين السوريين فاق قدرات المؤسسات اللبنانية على الاحتمال، والوجود الكثيف للنازحين يمكن أن يشكل غطاء لعمليات عسكرية ذات طابع سياسي، على غرار متفجرتي سفارة إيران في بيروت، وقد اتجه التحقيق فيهما إلى إتهام عناصر انتحارية من القاعدة، وأن العملية جزء من مسلسل إجرامي يجعل لبنان عرضة لتفجيرات انتحارية يومية على غرار العراق.

ثالثا: تشير التقارير الأمنية الواردة من شمال لبنان، إلى احتمال تفجيرات أمنية عبر سيارات مفخخة أو انتحاريين من حملة الأحزمة الناسفة، لقتل أكبر عدد من "الكافرين والمرتدين". ويعيش الطرابلسيون وباقي سكان لبنان الشمالي، هاجس تفجيرات تعجز عن مواجهتها التدابير الأمنية الأكثر دقة. واعتمدت تدابير غير مسبوقة من الإجراءات الأمنية في مناطق نفوذ "حزب الله"، وحول مؤسسات وهيئات سياسية وأهلية ودبلوماسية في معظم أنحاء لبنان.

رابعا: تشكل المرحلة الراهنة خطرا كبيرا على أمن اللبنانيين وبقاء لبنان دولة مستقلة وذات سيادة تامة على أراضيها، فالأزمة السياسية مستفحلة، والحكومة مستقيلة، والبرلمان معطل، والتفجيرات الأمنية متنقلة من منطقة لأخرى، والمأساة مستمرة في طرابلس، وموجات النازحين السوريين أحدثت اختلالات أمنية واقتصادية واجتماعية، من شمالي لبنان إلى شبعا في الجنوب. وبرزت تشنجات طائفية مستجدة في الجنوب، إلى جانب التشنجات الأخرى في باقي المناطق اللبنانية.

ووصل عشرات الصحافيين الأجانب إلى لبنان للانتقال إلى الحدود مع سوريا في منطقتي عرسال وشبعا، بداعي متابعة دخول النازحين السوريين وأوضاعهم. لقد باتت الأزمة السورية عند مفترق طرق، فإما أن يفرض المجتمع الدولي حلولا سياسية لها عبر مؤتمر جنيف الثاني، أو ينفجر الوضع العسكري على جميع الأراضي السورية وأجزاء واسعة من المناطق اللبنانية، التي بلغ فيها التشنج السياسي والمذهبي أقصى مداه.

خامسا: ما زالت قرارات مجموعة الدعم الدولية للبنان، التي أعلنت من نيويورك في سبتمبر 2013 حبرا على ورق، فإطلاق صندوق الدعم للبنان رهن بتشكيل حكومة لبنانية جديدة. ومع تزايد أعداد النازحين السوريين بعد فتح معركة القلمون في سوريا، باتت الأزمة تهدد بتفجير الوضع اللبناني شديد الاحتقان، والمنفعل برهانات القادة اللبنانيين على نتائج التطورات الإقليمية وتوجيهات مصادر القرار والتمويل في دول عربية وأجنبية.

وتبدو الدولة اللبنانية عاجزة عن احتواء المنحى المتنامي للحل العسكري بديلا للحل السياسي، وما زال قادة لبنان في موقع المتفرج على الأزمة السياسية المستفحلة التي تحول دون تشكيل حكومة جديدة، وهم أسرى الانتظار غير المجدي لحلول مرتقبة للأزمة السورية، التي دخلت بعد تأجيل الإعلان عن موعد مؤتمر جنيف الثاني، في بازار المفوضات الدبلوماسية لإيجاد حلول شاملة لأزمة الشرق الأوسط، ومعها أزمة السلاح النووي الإيراني.

ختاما، هناك خشية حقيقية من أن تصبح الساحة اللبنانية ورقة إقليمية ضاغطة، تخدم محور النظام السوري المتحالف مع ايران من جهة، أو محور الغرب المتحالف مع دول عربية تتبنى سياسة إسقاط النظام السوري كشرط للحل السياسي في سوريا ولبنان معا، من جهة أخرى. ويراهن بعض الأطراف اللبنانية على صفقة سياسية شاملة، للتوافق على رئيس جديد للجمهورية وقانون جديد للانتخاب وحكومة جديدة، أو يدخل لبنان في فراغ شامل يصعب الخروج منه دون تسوية إقليمية مدعومة دوليا، على غرار اتفاق الطائف أو اتفاق الدوحة.

لذلك وجه رئيس الجمهورية اللبنانية بمناسبة الذكرى السبعين لاستقلال لبنان، رسالة شديدة الوضوح تبرز المخاطر المحدقة بلبنان الوطن، بسبب وجود السلاح غير الشرعي، وتدخل لبنانيين عسكريا إلى جانب طرفي الصراع في سوريا، مما يشكل خطرا حقيقيا على استقلال لبنان وأمن اللبنانيين. فمتى يرتدع الساسة اللبنانيون عن التلاعب بمصير وطنهم؟

Email