هل تجيء عودة روسيا الاتحادية إلى منطقة الشرق الأوسط، كدليل مؤكد على نهاية الحقبة الأميركية التي تغلغلت في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟

الداعي لهذا الحديث هو صحوة العلاقات العربية الروسية، حيث بدا وكأن هناك حبال ود متصلة جديدة، تجلت بشكل واضح للعيان في الزيارة الأخيرة التي قام بها كل من وزيري خارجية ودفاع روسيا إلى القاهرة، وما رشح عنها من تعاون مستقبلي.

على أنه قبل الحديث عن عودة روسيا، يتساءل المرء هل باتت حقيقة نهاية الحقبة الأميركية "واجبة الوجود" كما تقول جماعة الفلاسفة؟

مما لا شك فيه أن أميركا بكل آلياتها الرسمية والخفية، قد عملت كثيراً وطويلاً على تكريس فكرة أنها "الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها" (THE INDISPENSABLE NATION).

هل من صلاحية لهذا المفهوم من بعد؟

باختصار غير مخل، لم تعد لواشنطن رؤية استراتيجية خاصة بالمنطقة العربية، وقد اعتبرت في استراتيجية واشنطن الجديدة للأمن بمثابة الممر إلى الاستراتيجية الأهم للأميركيين في القرن الواحد والعشرين؛ "الاستدارة نحو آسيا".

ألهذا بات الحال عربياً وخليجياً على نحو ما نراه؟

يرى الناظر إيران، على سبيل المثال، ماضية قدماً في إطار حيازة سلاح نووي، في حين أن واشنطن غير راغبة، وربما غير قادرة على المواجهة العسكرية، ولهذا فإن ما يجري على السطح الآن من غزل بين طهران وواشنطن، هدفه احتواء إيران النووية وليس ردعها.

أما عن القوى التقليدية عربياً، فخذ إليك مصر التي فقدت ثقتها في واشنطن عبر مرحلتين؛ الأولى عندما تخلت إدارة أوباما عن حليف وثيق ولصيق عبر ثلاثة عقود مثل حسني مبارك، والثانية عندما وقفت في وجه إرادة المصريين غداة 30 يونيو. وبين المرحلتين فقد الليبراليون إيمانهم بصدق شعارات أميركا البراقة العلنية، وفقد الإخوان والإسلاميون لاحقاً ثقتهم في جدوى التحالفات السرية.

أما الرياض فأزمتها مع الأميركيين في حاجة لحديث مفصل، لا سيما بعد تراجع واشنطن عن اتخاذ إجراءات تنهي المأساة السورية مرة وإلى الأبد من جهة، عطفاً على التناغم الأميركي الإيراني مهما حاولت إدارة أوباما طمأنة العرب.

والعراق بدوره ليس بعيداً عن حالة الرفض المصحوبة بمرارة للحضور الأميركي في المنطقة، وليس أدل على ذلك من اللوم والتقريع اللذين وجها لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بعد زيارته الأخيرة لواشنطن.

وفي الشأن الليبي حدث ولا حرج، وخاصة في ظل الانفصالات والانقسامات التي أضحت تهدد وحدة ليبيا، بعد انفصال إقليم برقة وما يعنيه ذلك لأي جماعات انفصالية أخرى في الجنوب أو الغرب. وحتى العلاقات مع إسرائيل مضطربة، فتطورات السياسة الخارجية الأميركية، لا سيما إرهاصات مصالحتها مع إيران، جعلت علاقة واشنطن - تل أبيب يسودها الفتور.

ما تقدم يعتبر صعوبات تجعل وضع القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم في تراجع مستمر، عطفاً على ما لدى الأميركيين من أسباب للانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وفي المقدمة منها عدم قدرتها على الوفاء بأكلاف الامتداد الإمبراطوري، وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل انحطاط أي إمبراطورية، بدءاً من الرومانية حتى البريطانية.

هل عودة موسكو إلى الشرق الأوسط تعني أن نهاية الحقبة الأميركية بالفعل قادمة لا ريب؟

يتحتم استخلاص حقيقة جديدة من تحليل وتفكيك علاقات واشنطن بدول المنطقة العربية، ومفادها أن أميركا باتت الدولة التي يمكن الاستغناء عنها (THE DISPENSABLE NATION).

هذا ما فهمه الروس بامتياز، خاصة وأن عودتهم هذه المرة تأتي في سياقات تاريخية وسياسية وعولمية مغايرة لما كانت عليه الأوضاع الدولية في زمن الحرب الباردة، إذ لا مجال الآن للتناحر الأيديولوجي بين حلفي وارسو والناتو، ولا سعي لعسكرة دول الشرق الأوسط، إنما مجالات من التعاون، نعم فيها البعد العسكري واضح ومهم ومتقدم، لكن مجالات أخرى لا تقل أهمية، كالتعاون التجاري والاقتصادي، واتفاقيات الغات والتجارة الحرة، تأخذ مكانة متقدمة بدورها.

تعود موسكو وعلى رأسها اليوم فلاديمير بوتين ضابط الاستخبارات الروسية العتيد، الذي جعل الدب الروسي القطبي ثقيل الوزن بطيء الحركة، ثعلباً صغيراً سريع الحركة رشيق الخطوة، يعرف جيداً كيف يستفيد من غياب الرؤى الاستراتيجية للأميركيين في المنطقة.

علاقة موسكو ـ القاهرة المتجددة بعد انقطاع في واقع الحال، وإن استهلت بالحديث عن صفقات عسكرية، تفهم في سياق إرسال القاهرة إشارات للجالس سعيداً في البيت الأبيض، بحسب المنطوق الفاتيكاني التاريخي، مفادها أن العالم ليس أميركياً فقط، إلا أنها علاقة تحمل في طياتها نماذج من التعاون في مجال الطاقة بأنواعها، وهو أمر تجيده موسكو بعلمائها ومعاملها، وفي مجال الصناعات العسكرية، وفي مجال الزراعة واستصلاح الأراضي، وفي مجال التعاون حول رغيف الخبز وشحنات القمح، السيف الأميركي المسلط على رقاب المصريين، وفي دائرة السياحة لا سيما وأن روسيا سوق سياحي هائل لمصر. أما المجال الذي لا يقل أهمية، فهو الكشف عن ينابيع الغاز الطبيعي والنفط وبقية الموارد الطبيعية في صحارى مصر ووديانها ومياهها.

نهاية الحقبة الأميركية في الشرق الأوسط، عطفاً على كل ما تقدم، سببها الحقيقي إيمان شعوب المنطقة بأنه حان الوقت لإنهاء التبعية المطلقة لواشنطن، وتخليها عن فكرة أن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا، وأنه حان وقت فتح الأبواب والنوافذ على موسكو وبكين ونيودلهي ونيومكسيكو وبوينس أيرس وداكار... فالعالم ليس أميركياً بالمطلق بعد.