معاناة السوريين متعددة الجوانب

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس عنف السلطة، وعبثية التدمير، والتهجير، والقتل، والاعتقال، والتشرد والغلاء، والجوع، والمرض، هي وحدها، التي ابتلي بها السوريون، تسومهم سوء العذاب، وتهدد حياتهم، وأملاكهم، وحاضرهم ومستقبلهم، إنما يعانون أيضاً انتشار الفوضى، وانعدام الأمن، والتعرض للسرقة، والابتزاز، والخطف، والاختفاء، وللثأر الهمجي، وإطلاق العنان للغرائز على مختلف أنواعها.

لقد انتشر ما يسمى بالحواجز الأمنية في شوارع البلدات والمدن، وعلى الطرقات بينها، حيث يقيم في الحاجز عادة، عدة جنود لا يقل عددهم عن عشرة، ويزيد أحياناً على خمسين مزودين بالسلاح.

ولا أحد يعرف بدقة مهمة هذه الحواجز، فبعضها يطلب التدقيق في البطاقات الشخصية لركاب السيارات، وبعضها الآخر يفتش هذه السيارات وما تحتوي، والبعض الثالث لا يعمل شيئاً سوى تضييق الشارع، ليمرر سيارة واحدة فقط، من دون أن يسأل هذه السيارة، أو ركابها عن أي شيء، ويقوم بعض الجنود بمصادرة بعض مقتنيات ركاب السيارات من دون سبب.

وخاصة السيارات الشاحنة، التي تحمل السلع الغذائية، فيصادر بعض محتوياتها، ولا يجرؤ سائق السيارة، أو مالك البضاعة لا على الاحتجاج ولا على الشكوى، وهكذا فقد يمر على عدة حواجز، فينقص بذلك قسم كبير من البضائع التي يريد توزيعها على تجار المفرق، فترتفع أسعارها للتعويض، وأحياناً يخطئ راكب سيارة خاصة، أو يتلفظ بكلمة نقد ما، وعندها توقف سيارته جانباً، ويهان، أو يضرب، أو يعتقل، أو تطلب منه رشوة، من دون أن يستطيع الرفض أو الاحتجاج.

انتشرت السرقات في المدن السورية، حيث يدخل اللصوص أو عناصر الأمن جهاراً نهاراً أي بيت، ويبلغون سكانه أنهم من أمن الدولة، ويفتشون البيت ويسرقون ما يحلو لهم ويخرجون، وبعد خروجهم لا يستطيع صاحب البيت تقديم الشكوى، لأن مخافر الشرطة المختصة ترفض تلقي أية شكوى، بسبب خوفها من أمن الدولة، وأحياناً كثيرة، يكون اللصوص أعضاء عصابات سرقة وسطو، وليسوا من أمن الدولة، إلا أن مجرد زعمهم بالانتماء لهذا الجهاز، يوقع الرعب بصاحب البيت، الذي يخشى أن يقتلوه، أو يعتقلوه، فكيف يعرف أنهم ليسوا من أمن الدولة؟ فهم مسلحون ويتصرفون بالعنجهية والعسف، الذي يتصرف به عناصر الأمن.

جند النظام ما سماه "اللجان الشعبية"، وهم مدنيون عاطلون عن العمل وشباب في العشرينيات، يعطيهم رواتب مجزية، ويسلمهم بندقية رشاشة (كلاشينكوف)، للدفاع عن النظام، باعتبارهم يخدمون غالباً في مناطق سكناهم، ويعرفون الناس وميولهم، وقد أطلق هؤلاء لغرائزهم العمل بلا حدود، فيسرقون، ويصادرون، ويخطفون طلباً للفدية، ويعتقلون من لا يحبونهم بتهم ملفقة، ويثأرون من أضدادهم أو أعدائهم، أو ممن كانوا يحسدونهم على نجاحهم، من دون أن يستطيع أحد الشكوى، أو ردهم عن عسفهم، وسرقاتهم، وحماقاتهم، وأحياناً ارتكابهم الجرائم.

وفي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، تنتشر الظاهرة نفسها، أعني ظاهرة السرقة والخطف، والاتهام والاعتقال، وأحياناً القتل، ويزعم من يقوم بها أنه من فصائل المعارضة المسلحة، أو من الجيش الحر، أو حتى من قوى الأمن، وفي الخلاصة، تتعرض حياة المواطن وأملاكه وكرامته للخطر، من دون أن يعرف من أوقع به هذا الأذى.

إن تغول قوى الأمن والقوات العسكرية على المواطنين، لم يبدأ في الواقع مع الثورة، أو مع الصراع العسكري، أو انتشار العنف، إنما بدأ قبل عشرات السنين، حيث أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد قانوناً، منع فيه محاكمة "رجل الأمن" عند ارتكابه أية جريمة، إلا بموافقة وزير الدفاع.

ولم يعرض خلال ثلاثة عقود على وزير الدفاع طلب الموافقة على محاكمة أي مرتكب، إذ لا بد من أن يبدأ الرئيس المباشر لمرتكب الجريمة بطلب الإحالة إلى المحاكمة، وهذا يكون غالباً شريكاً في الجريمة، أو أنه يرفض محاكمة مرؤوسه مهما كان خطؤه، وهذا ما أدى بأجهزة الأمن لارتكاب مختلف أنواع الجرائم، والابتزاز، والتهديد، والمصادرة بغير حق، منذ عشرات السنين، تحت شعار أمن الدولة، ومنذ تدخل الجيش ضد الانتفاضة، وبعدها ضد الثورة، انتقلت الصلاحية لجنوده، الذين لكل منهم "الحق" في عمل ما يشاء تجاه أبناء الشعب.

تستباح أموال الشعب في سوريا الآن، وأملاكه ومدخراته، من قبل الحواجز الأمنية، وأجهزة الأمن، و"اللجان الشعبية"، ومن المسلحين، كما يسفك دمه وتنهب مساكنه ومقتنياته، وقد تعطلت حياته الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، حيث "لا أحد يزور أحداً مساءً"، ومنعت إقامة الأفراح والتعازي ليلاً، وينبغي أن تنتهي قبل المساء، ونفدت مدخرات السوريين، وألغى معظمهم كل ما هو ممتع في حياتهم، (فلا حفلات ولا سهرات ولا ولائم ولا مطاعم).

إضافة إلى نشوء قيم رديئة جديدة، كانوا يستنكرونها، ويعتبرونها عاراً ما بعده عار، كالاستهانة بهتك الأعراض (اختياراً أو اغتصاباً)، والتسول، والاحتيال، وأكل مال الغير وقبول الإهانة، وتجاهل الانتصارات والهزائم القومية،أو المتعلقة بالبلدان العربية الأخرى.

لقد تغيرت مفاهيم الهوية، والانتماء الوطني، والمشاعر القومية، ومفاهيم السيادة، التي يتشدق بها أهل النظام (عالطالع والنازل)، إنها مأساة السوريين.

Email