مشكلات البحث الاجتماعي والانتفاضات العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم كثرة الجامعات العربية التي تدرس العلوم الاجتماعية، تبدو محصلة البحوث النظرية العربية المعتمدة في دراسة تطور المجتمعات العربية، هزيلة بالقياس إلى التقدم العاصف للعلوم الاجتماعية، وعلوم التواصل، وثورات العلم والتكنولوجيا.

لا يتسع المجال هنا لتقديم صورة شمولية حول أساليب التدريس الأكاديمية المعتمدة في الجامعات العربية، لأنها متنوعة ومتباينة جدا بين جامعة وأخرى. كما أن الدراسات التجريبيةالتي يتدرب عليها طلبة الجامعات، والأبحاث الجديدة المنجزة، تشير إلى خلل فاضح في مناهج التدريس وجدة المصادر والاستفادة من الإحصائيات المحلية والخارجية.

يتدرب طلبة الجامعات المتطورة على كيفية تبويب الرسالة أو أطروحة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، وفق مناهج معتمدة عالميا من حيث طرق الاقتباس العلمي، وتنوع اللغات، وإعداد الجداول، والتدرب على كيفية تحويل المقابلة الشفوية إلى نص مكتوب يستفيد منه الآخرون. ويقوم الباحث بدورات تدريبية مكثفة، تمكنه من استخدام الكومبيوتر والأنترنيت وغيرهما من وسائل التكنولوجيا الحديثة، التي تسهل عمله وتوفر الكثير من وقته لإعداد البحث العلمي وإخراجه بشكل متميز.

لا بد للباحث الاجتماعي العربي إذن، من تملك أدوات بحثه قبل ولوج حقل الدراسات الاجتماعية العلمية، والاستفادة من ثورات الإعلام والتواصل التي فتحت آفاقا جديدة أمام البحث العلمي في مجالات عدة.

بيد أن غالبية الدراسات الاجتماعية الراهنة في العالم العربي، ما زالت تتناول الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بشكل شمولي، وتستفيد بصورة جزئية فقط من المناهج المساعدة لعلم الاجتماع، خاصة علم الأنثروبولوجيا الذي فتح آفاقا جديدة للبحث الاجتماعي في أسس النظام القبلي السائد في غالبية الدول العربية، بصورة أكثر دقة وموضوعية. وساعدت أدوات التواصل العصرية، الباحث الاجتماعي العربي على تقديم دراسات تجريبية أكثر دقة، بالاستناد إلى مصادر معرفية موثوقة تظهر تطور الأوضاع الاجتماعية على مختلف الصعد، وفي جميع المناطق ولدى جميع الفئات السكانية، إضافة إلى إظهار الترابط الوثيق بين التطور المحلي والتطورات الإقليمية والدولية في عصر العولمة، دون تجاهل السمات الخاصة داخل كل دولة عربية.

بعد نجاح الانتفاضات العربية في 2011، باتت البحوث الاجتماعية في العالم العربي بحاجة ماسة إلى منهجيات علمية عالية، وحس وطني سليم لتعزيز الترابط بين جميع المواطنين، على اختلاف طوائفهم ومناطقهم وميولهم السياسية وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.

على جانب آخر، ما زالت المقولات النظرية الغربية تساهم في تثقيف آلاف الأكاديميين العرب، داخل الوطن العربي وفي الخارج. ونشر المتنورون منهم دراسات اجتماعية عربية، تبرز تفاعل الثقافات وأثرها في تطوير مناهج البحوث الاجتماعية العربية، دون أن تتبلور حتى الآن ملامح سمات خاصة بعلم الاجتماع العربي.

مع ذلك، تطورت الدراسات الاجتماعية على امتداد العالم العربي، ونشرت نماذج متنوعة من الدراسات العلمية الميدانية التي تناولت شرائح اجتماعية متنوعة، وفق إشكاليات نظرية حديثة في مجالات عدة أبرزها:

أ- دراسة التنوع السكاني والتعددية العرقية والدينية والثقافية.

ب- إبراز دور القوى السياسية والعسكرية في تطوير المجتمعات العربية أو إعاقتها.

ج- دراسة المسألة الوطنية والقومية في المرحلة الراهنة وآفاقها المستقبلية.

د- تحليل أوليات الارتباط الوثيق بين التطور العلمي والتنمية السياسية على مستوى القطاعين العام والخاص، وعلى مستوى المجتمع الأهلي.

لكن الدراسات الميدانية عن المجتمعات العربية، ما زالت تتأرجح بين تقليد الأبحاث الغربية وتقديم نماذج عنها بلغة عربية. وقدمت النخب المتميزة من علماء الاجتماع العرب أبحاثا هامة، جمعت بين التاريخي والاقتصادي والسكاني والثقافي، وبنيت على مصادر أصلية ومشاهدات علمية رصينة، تجاوزت الكثير من الدراسات الاجتماعية الغربية عن العالم العربي.

لكن الأزمات المتنوعة التي شهدتها المجتمعات العربية في السنوات العشرين الماضية، أدت إلى تراجع مريع في مستوى البحث الاجتماعي العربي. وضمن الكم الهائل من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، تهيمن الدراسات السطحية على البحث الاجتماعي العربي. وهي لا تقدم إضافات علمية رصينة، لأن هاجس أصحابها هو الحصول على الشهادة الأكاديمية، دون الحرص على امتلاك المعرفة العلمية والكفاءة الشخصية التي تتطلبها الدراسات العلمية الاجتماعية، مما أدى إلى تدني مستوى البحوث الاجتماعية العربية، وضمور الإشكاليات الثقافية الجديدة، وعجز العرب عن بناء مجتمع المعرفة الذي يلعب الدور الأساسي في تنمية الديمقراطية والمجتمع المدني.

ومع أن البحوث الرصينة في مجال العلوم الاجتماعية نجحت سابقا في تعرية زيف الإيديولوجيا القبلية والدينية، إلا أنها تراجعت مؤخرا أمام زحف العصبيات التي شوهت الوعي العلمي لدى جيل عربي بأكمله. وقد تركت بلبلة ثقافية عميقة بين علماء الاجتماع العرب الشباب في نظرتهم إلى شعوبهم، ودولهم، وثقافتهم، وتراثهم، ولغتهم، مما يتطلب الإسراع في تصويب المسار العلمي للدراسات الاجتماعية الجادة والموثقة، وإعادة التواصل الثقافي بين أجيال متعاقبة عاشت حروبا ونزاعات داخلية أدت إلى دمار هائل في مستوى التعليم ونظام القيم الأخلاقية.

ومن أولى مهمات البحث العلمي الاجتماعي في زمن الانتفاضات العربية، الاهتمام بدراسة البنى العربية الجديدة بشكل معمق، وتقديم استنتاجات عقلانية تساعد على إبراز مأزق التنمية المشوهة للمجتمعات المدينية العربية وأسباب ترييفها.

وذلك يطرح مسألة نظرية هامة: كيف نكتب مجددا تطور المجتمع المدني المعاصر في زمن الانتفاضات العربية؟ وكيف تتم عملية الربط بين البحث الاجتماعي وحاجات المجتمع المدني في العالم العربي.

ختاما، لا بد من الاعتراف بأن المنهجيات المعتمدة الآن في مجال البحث الاجتماعي، لا تساهم جديا في تصويب مسيرته. وذلك يتطلب إعادة نظر جذرية في مناهج البحث الاجتماعي في الجامعات العربية، فقد بان فشلها في تحليل حركية المجتمعات العربية، وأصبحت الدراسات الاجتماعية، بشقيها الديني والسياسي، لا تستقطب اهتمام المثقفين المتنورين، خاصة الشباب منهم. وهذا مؤشر إضافي على عمق الأزمة الثقافية في مجال البحث الاجتماعي العربي.

Email