لعب مع الكبار

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذات مرة وفي عز دفء العلاقات المصرية الأميركية، كنا في مدينة سان دييغو الأميركية على ساحل المحيط الهادئ، ودار حوار صاخب مع مجموعة من صحفيي جريدة «يونيون»، وهي أكبر جريدة توزع في ولاية كاليفورنيا، عن أزمة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية وكيفية الوصول إلى سلام عادل وشامل.. وفجأة سأل أحدهم: لماذا يدين المصريون بالجميل للروس حتى الآن، فلم يخرجوا أبداً في تظاهرة ضد السياسة الروسية، بينما يفعلون العكس مع الولايات المتحدة، ويخرجون في عشرات التظاهرات التي تندد بها وتحرق العلم الأميركي، رغم معوناتها الهائلة لهم بمليارات الدولارات؟

قلت: تظاهرات المصريين ضد أميركا سببها دعم واشنطن للعدوان الهمجي لجيش الدفاع الإسرائيلي على الفلسطينيين طول الوقت، ليس هذا فحسب بل عامة المواقف الأميركية ضد مصالح الشعوب العربية، بينما يقف الروس مع العرب تقريباً، وكانت مساعداتهم لمصر أهم كثيراً من المعونات الأميركية، فقد تحولت إلى مصانع كبرى للحديد والألومنيوم وسد عال وخبرات علمية رفيعة المستوى.. الخ.

وهي تحولات ذات عوائد مادية وبشرية دائمة لمسها المصريون بأيديهم في حياتهم اليومية، لكن المعونات الأميركية لم تبن مصنعاً، ولم تنشئ قنطرة ري واحدة لا سداً عالياً، لم تؤثر تأثيراً جوهرياً في بنية الاقتصاد المصري.

بل على العكس حولت بعض جوانبه إلى اقتصاد خدمات تتسع فيه رقعة الاستيراد دوماً، وتسقط عوائده بالضرورة في جيوب أقلية محظوظة في المجتمع، مرتبطة بمصالح مع واشنطن. صحيح أن المعونات الأميركية ساهمت في مشروعات بنية أساسية من مياه وصرف صحي وتليفونات، لكنها بالقطع أقل قيمة من المصانع والسد العالي والتدريب المهني والعلمي، والأهم أن تأثيراتها لم تصل إلى عامة المصريين.

وبشكل عام يحب المصريون الأميركان شعباً ويكرهونهم حكومة، يتفهمون أسلوب حياتهم، ويلبسون الجينز مثلهم، ويسمعون موسيقى الجاز والروك وأغاني البوب، ويشاهدون أفلام هوليوود ويتابعون نجومها، ويذهبون إلى المطاعم الأميركية للوجبات السريعة رغم مضارها على الصحة، ويعرفون الكثير عن المجتمع الأميركي عاداته وتقاليده وقيمه، لكنهم أيضاً لا ينسون عداوة السياسة الأميركية لمصالحهم ودعمها غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل. لم يستوعب الصحافيون الأميركيون ما قلت، وظل رد فعل المصريين ضدهم، في كل هجوم تشنه إسرائيل على الفلسطينيين «دفاعاً عن نفسها»، لغزاً محيراً.

قلت: دفاعاً عن نفسها تعبير مراوغ وزائف جملة وتفصيلاً، وهذه هي المشكلة. ومرت سنوات وجرت مياه كثيرة تحت جسور العلاقات المصرية مع أميركا، ثم وقعت الأزمة الأصعب فيها عقب عزل الرئيس محمد مرسي. من هنا يمكن أن نفهم أسباب الاحتفاء المصري الشعبي باسترداد العلاقات المصرية الروسية بعضاً من دفئها القديم، على الصعيدين الاقتصادي والعسكري.

لكن من الخطأ أن نتصور أن عصر الحرب الباردة قد عاد، ويمكن لمصر أن تلعب نفس اللعبة القديمة التي أتقنها الزعيم جمال عبدالناصر في خمسينات وستينات القرن الماضي، بين القوتين العظميين: الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. هذا زمن مضي وانتهى إلى الأبد، كان العالم قد خرج لتوه من الحرب العالمية الثانية منقسماً إلى كتلتين متصارعتين: شرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وغربية بقيادة الولايات المتحدة، ولم يكن انقساماً سياسياً وعسكرياً بقدر ما كان انقساماً مريراً في النظم الحاكمة والفلسفة الاقتصادية ورؤية العالم، وكانت مصر منحازة إلى الغرب الرأسمالي الحر، بحكم الثقافة الجديدة التي بناها محمد علي الكبير من خلال البعثات إلى أوروبا، وكراهية المصريين للشيوعية بحكم ولعهم الديني، لكن جون فوستر دالاس وزير خارجية أميركا وقتها، ارتكب كماً من الحماقات مع جمال عبدالناصر دفعه دفعاً إلى الاتحاد السوفييتي، ليحقق لبلاده صديقاً دولياً من الطراز الرفيع.

أما الآن فقد تغير النظام العالمي ولم يعد لا وحيد القوة ولا ثنائي القوة، وإنما متعددة المراكز الكبرى: أميركا، الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي، إلى جانب نمو مراكز اقتصادية قوية في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.

وقد ثبت انهيار نظام العالم ذي القوة الثنائية أو الأحادية في الأزمة السورية، والأزمة النووية الإيرانية، والأزمة المالية الأميركية الحالية، التي لم تأخذ معها النظام المالي العالمي كما حدث في أزمات سابقة. لكن هذا لا يعني انهيار الدور الأميركي أو غيابه، وإنما لم يعد هو «صاحب الصوت الأقوى والمرجح» في القرار الدولي. وبالطبع تدرك الدولة المصرية هذه الحقائق جيداً، وحين تمد بصرها وعقلها ناحية الشرق الروسي، فهي قطعاً لا تفعل ذلك نكاية في الولايات المتحدة، ولا استبدال دولة روسية صديقة بدولة أميركية غاضبة، وإنما تعيد تنظيم علاقات غير متوازنة أضرت بها ضرراً بالغاً، في إقليمها وعالمها، وتصنع قدراً من الاستقلالية يخرجها من دائرة النفوذ الأميركي الضيقة إلى عالم التوازن الواسع.

ولن يكون اللعب سهلاً مع الكبار هذه المرة، فالعالم أكثر تعقيداً من ذي قبل، وإذا لم تنتهز مصر فرصتها الحالية وتعيد ترتيب بيتها الداخلي على نحو يحترمه العالم: اقتصاداً وسياسة ومعرفة وعملاً، فستظل رجلاً مريضاً ذا تاريخ عريق، وغير قادر على استعادته في الوقت الراهن.

Email