التضحية على المذهب الفرنسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

فجعت فرنسا في الثاني من هذا الشهر باثنين من أبرز صحافييها المتمرسين: غزلين دوبون وكلود فيرلون في أتون المعارك الدائرة في كيدال شمال جمهورية مالي. اختطاف ومن ثم قتل هذين المراسلين المبتعثين من الإذاعة الفرنسية الدولية، يثبت بأن الأوضاع في تلك المنطقة لن تستقر، وأن الوجود الفرنسي سيظل في جمهورية مالي إلى أن يشاء الله حتى ولو كلفها ذلك صحافيين اثنين من خيرة المراسلين الفرنسيين.

 فالطموح الغربي أكبر من أن يحده اختطاف وقتل رجل وامرأة. فالولايات المتحدة خسرت في أفغانستان آلاف الجنود وأضعافهم من الجرحى. ورغم المبالغ الباهظة التي صرفت في أفغانستان إلا أن رجال السياسة قرروا البقاء حتى آخر رمق.

التشابه بين ما حدث في أفغانستان عام 2001 وما يحدث في شمال مالي منذ شهر يناير يكاد أن يكون متطابقاً، ولكنه لا يمكن أن يكون مجرد صدفة.

الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان تحت ذريعة الانتقام لأحداث 11 سبتمبر كانت موجهة للقضاء على القاعدة وشريكتها طالبان ومن ثم الإبقاء عليهما. وهذا ما نجده يتكرر بعد 13 عاماً على أراضي جمهورية مالي ولكن بطل المسلسل هنا يتحدث الفرنسية.

الحرب ضد الإرهاب أصبحت رخصة قيادة دولية شرعية وبمجرد إبرازها تمنح حاملها حق استخدام كل الوسائل والأسلحة لردع كل من تطلق عليه صفة إرهابي ومن يهدد بشكل أو بآخر مصالح الدول الصناعية، دون الحاجة إلى الرجوع إلى الأمم المتحدة. والكل بات يعرف كيف تتخذ القرارات في الجمعية العامة وما تلعبه أساليب الضغط بين الكواليس من دور لتمرير هذا القرار وحجب ذاك حسب المصالح.

الولايات المتحدة أعلنت أنها لا تنوي البقاء طويلاً على الأراضي الأفغانية، وأن بقاءها مرهون بالقضاء على القاعدة وفلول طالبان وإعادة الحرية إلى الشعب الأفغاني. ومع كل قوة هذه الدولة العظمى وإصرارها لا تزال طالبان تقاتل بشراسة وتفرض نفسها على مناطق واسعة من أفغانستان، والقاعدة تتسع وتتمدد حتى وصلت إلى الشام واليمن وإلى عمق أفريقيا..

وفرنسا كررت الأسطوانة نفسها بأنها لم تأت للبقاء في مالي وإنما للقضاء على الإرهابيين. واعتقد الفرنسيون بأن جيوشهم هناك تحارب لهدف إنساني، وأنهم ذاهبون لفترة وجيزة، لكن هذه الفترة طالت وستصبح بعد شهر واحد سنة منذ بداية التدخل العسكري..

وقد تمتد. وما لا نفهمه أنه كيف لم تستطع القوات الفرنسية المدججة بأكثر السلاح تطوراً والمدعومة بالاستخبارات ومعلومات الأقمار الصناعية التي تصور حركة الفأر القضاء على مجموعة من المقاتلين وتجبرهم على الاستسلام؟

قبلها، شكك الكثيرون في نيات الولايات المتحدة، إلى الحد الذي ذهب فيه البعض إلى الحديث عن وقوف الاستخبارات الأميركية والصهيونية خلف التخطيط لأحداث 11 سبتمبر، وما تلاها بعد ذلك من غزو لأفغانستان. وهناك من يؤكد أن الولايات المتحدة كانت قادرة على القضاء على طالبان والقاعدة في فترة وجيزة ولكنها تعمدت الإبقاء عليهما لحاجة في نفس البنتاغون والبيت الأبيض، تماماً كما فعلت مع الإبقاء على صدام حياً يرزق بينما كانت على مسافة قاب قوسين أو أدنى من القبض عليه.

نحن لا نشكك في نيات فرنسا أمام بقعة جغرافية تشابه كثيراً أفغانستان اقتصادياً واستراتيجياً. ونتمنى فقط ألا تقع في مطب الولايات المتحدة في أفغانستان.

القاعدة والإسلاميون المتطرفون وصلوا إلى شمال أفريقيا ووسطها، كيف وبمساعدة من ومن يدعمهم من الخارج؟ لا نعرف. وأفريقيا تقع على مشارف أوروبا ولا يفصلها عنها سوى الماء. وهناك قضايا تاريخية واستعمارية وثورية مشتركة بينهما، وزحف وتمدد الإسلاميين بهذه السرعة قد يهدد الاستقرار في جنوب أوروبا ومن ثم وسطها ومن يدري..

والأحداث في سوريا تثبت عنادهم وبسالتهم وإصرارهم وعدم خوفهم من الموت. فهل كثير على فرنسا أن تضحي بصحافيين اثنين طالما استفاد من تقاريرهما المحللون السياسيون في فرنسا، بغرض وقف المد الإسلامي بكل درجاته لحصره في أفريقيا قبل أن يستفحل وينتشر في أوروبا المسيحية؟

Email