موجبات وقف الحرب العبثية في طرابلس

ت + ت - الحجم الطبيعي

تميزت الجولة رقم 17 في سلسة الجولات الدموية المستمرة في مدينة طرابلس بسمات بالغة الخطورة. فبدت الأزمة على حقيقتها من حيث وجود قوى تعطي الأوامر بفتح المعركة وتوقفها وفق أجندات إقليمية ودولية. ودلت تلك الجولات على أن جرح طرابلس مفتوح على جميع الاحتمالات. فالهدف منها توجيه رسائل سياسية إلى أطراف لبنانية وسورية وعربية ودولية. ورغم الضجيج الإعلامي حول قرب انعقاد مؤتمر جنيف الثاني لإيجاد حل سلمي للأزمة السورية فإن معركة إسقاط النظام السوري ما زالت مستمرة وممولة.

الجميع في لبنان وخارجه، على قناعة من أن جولة دموية جديدة هي قيد الإعداد في طرابلس. فهناك أجندة خارجية تستخدم أمن المدينة ودم أبنائها واقتصادها المنهار ورقة للتفاوض بين قوى إقليمية ودولية.

تميزت الجولة الأخيرة بكثرة ضحاياها بعد أن طال زمنها وما زالت نارها مستعرة. فوقف الصراع الدموي لم يعد بأيدي الوكلاء المحليين من زعماء السياسية وقادة المحاور. والقوى الإقليمية تريد استثمار مأساة طرابلس لتحقيق مكاسب مادية وتصفية حسابات سياسية.

لذلك أصرت أطراف الصراع داخل طرابلس على إطالة أمد الاشتباكات بصورة غير مسبوقة. وتخللتها مواقف سياسية خطيرة تحرض الميليشيات المحلية على ضرب الجيش اللبناني بعد إتهامه بالانحياز، وتحميله وزر ما أطلقته الميليشيات من تصريحات استفزازية كادت تشعل جميع مناطق طرابلس، بالإضافة إلى توجيه بعض الميليشيات المعروفة الانتماء السياسي أسلحتها ضد مراكز الجيش اللبناني الذي اضطر إلى التريث في الرد رغم سقوط بعض الجرحى في صفوفه إلى حين صدور قرار سياسي واضح بتكليفه مسؤولية الأمن وإسكات مصادر النيران في جميع أنحاء المدينة.

كانت محصلة الأيام الثمانية للجولة الأخيرة، الأطول بين الجولات السابقة والأكثر دموية، سقوط 15 قتيلاً وأكثر من مئة جريح. وتضاعف حجم الدمار والخراب على جميع محاور القتال. واستفحلت الأزمات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في المدينة بسبب إقفال غالبية المؤسسات الاقتصادية، وزيادة حجم البطالة، وتدني أسعار العقارات بنسبة تجاوزت الخمسين بالمئة قرب المناطق الساخنة.

ورغم الوقف الهش لإطلاق النار ورصاص القنص، فالغياب المستمر للحلول السياسية والانمائية منذ بدء الجولات الدموية عام 2008 لا يبشر بنهاية مأساة طرابلس. وتبادل الرسائل المحلية والإقليمية بدماء فقرائها مستمر دون أن يحقق أي طرف طرابلسي مكاسب تذكر باستثناء الدور المتزايد لزعماء الميليشيات الجدد الذين بات لهم نفوذ قوي على حساب زعامات محلية ضعيفة ومهمشة. ومنها زعامات ملزمة بتقديم الدعم المالي لقادة المحاور لكي يبقى لها كلمة ولو غير مسموعة لدى قوى عسكرية متنازعة لا تقيم وزناً لزعماء السياسة في طرابلس، القدامى منهم والجدد. لذلك شدد الوزير فيصل كرامي على أنه لا خيار يرتجى للطرابلسيين خاصة وللبنانيين عامة إلا بقيام الدولة القوية ومؤسساتها، وعلى رأسها الجيش، ورفض التشكيك بدور المؤسسات الأمنية والقضائية.

علماً أن طرابلس اليوم ممثلة في حكومة الميقاتي برئيسها إلى جانب خمسة وزراء آخرين. وهم مهمشون جميعاً، وبدا مركز القرار السياسي في بيروت هزيلاً في مواجهة المشهد الطرابلسي الدموي، وكأن المدينة متروكة لما يتهددها من دمار شامل. وتكرر مشهد الدمار في المدينة خلال فترات متقطعة يشتد فيها الخلاف السياسي، والصراع المذهبي، والفلتان الأمني. فتعاقبت جولات العنف الدموي بين محاور ثابتة، ترافقها اتصالات، وبيانات، واعتصامات، وتهديد السكان بالعصيان المدني. وفي كل جولة يرفع الغطاء عن المسلحين، وتوضع خطة عسكرية جديدة يعقبها دخول الجيش إلى محاور القتال، ووقف مؤقت لإطلاق النار، ومطالبة الهيئة العليا للإغاثة بدفع التعويضات قبل أن ينفجر الوضع من جديد.

تجدر الإشارة إلى أن المتقاتلين في الجولة الأخيرة تجاهلوا نداء القوى الوطنية التي أصرت على وقف القتال العبثي، وطالبت الجيش بضرب كل من تسول له نفسه اللعب بأمن المدينة وسكانها، ودعت حكومة تصريف الأعمال إلى بذل جهود فعلية لوقف تدميرها المبرمج ، وتوظيف كل الإمكانات المتاحة لإعادة الأمن والاستقرار إلى طرابلس، ومساعدة شعبها ومؤسساتها ومدارسها على الخروج من دائرة القتل المجاني غير المبرر والذي يرتدي وجهاً مذهبياً بشعاً لم تعرفه مدينة طرابلس طوال تاريخها المديد.

وقد كفر الطرابلسيون بزعمائهم، من سياسيين، وميليشيات، ووكلاء معتمدين لقوى إقليمة ودولية. وقد لا تنته جولات العنف في طرابلس طالما أن تداعيات الأزمة السورية ما زالت تنعكس سلباً على لبنان. وأصبح الفلتان الأمني فيها يهدد مصير لبنان واللبنانيين، على اختلاف مناطقهم وطوائفهم. وهم يتوجسون من أن تنفجر قريباً جولة عنف جديدة نظراً لوجود دولة رخوة في لبنان، وقوى سياسية تسعر الخلاف بين الطرابلسيين بدل أن تداوي جرح المدينة، وتدافع عن أصالتها وتاريخها الحافل بالتنوع، والتعددية، والتألق السياسي، والأدبي والفني.

أخيراً، يبدو أن النزف مستمر في طرابلس ومرشح للتمدد نحو مناطق أخرى من لبنان عبر السيارات المفخخة. وباتت محصلة الجولات العبثية مئات القتلى وآلاف الجرحى والمهجرين الذين اضطروا للهرب من جحيم القتل ، والقنص، والاعتداءات الشخصية، وحرق البيوت والمحلات التجارية، وزرع المتفجرات المدمرة التي أودت بحياة مئات الأبرياء وتركت آلاف الجرحى والمشوهين. تعيش طرابلس اليوم في دوامة يومية تنذر بتدمير عناصر الصمود البشري والاقتصادي والثقافي على أراضيها.

وساهمت المواقف الملتبسة لبعض السياسيين في طرابلس ببروز مجموعات مسلحة خرجت عن سيطرة الساسة المحليين. وبات لبعض المجموعات المسلحة تمويلها الخاص، وأجندتها السياسية الإقليمية.

ووجهت أسلحتها إلى صدور الجنود والقوى الأمنية اللبنانية، وما زالت تمنعها من وقف العنف العبثي في طرابلس. لذا بات النظام السياسي اللبناني أمام اختبار صعب لاسترجاع المدينة وسكانها من سيطرة المسلحين حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية لإنقاذ المدينة دون أن تروع أهلها أو تستثير غرائز طائفية ومذهبية. ختاماً، ليس من شك في أن الصراع المذهبي العبثي الذي تشهده مدينة طرابلس يبعدها عن تاريخها الوطني والقومي الناصع البياض.

فقد تأسست كملتقى لثلاث جاليات من مدن صور وصيدا وأرواد زمن الكنعانيين وأنسبائهم الفينيقيين. وبلغت أقصى تألقها أيام بني عمار في زمن االحقبة الفاطمية، حيث كانت مكتبتها من أكبر المكتبات الثقافية في شرقي المتوسط. وشغلت مركز ولاية عثمانية مترامية الأطراف لمئات السنين. وخضع لها جزء واسع من إمارة جبل لبنان. وقدمت رواداً في السياسة والثقافة والأدب والتاريخ والمسرح والفنون. فمتى يتكاتف الطرابلسيون لاستعادة مدينتهم من قادة الميليشيات، ووكلاء المحاور الإقليمية، ودعاة التعصب الطائفي والمذهبي؟

Email