نزيف الطاقات العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تواجه المجتمعات التي مرت بتغيير النظام السياسي حالة مشتركة من النزف غير العادي. تتجسد هذه في كل الاتجاهات الاقتصادية والتعليمية، ومشاريع الاستقرار والتطوير. لا تزال حالة التخبط والفوضى تسود الطبقات السياسية الحاكمة والمجتمعات على حد سواء.

تأثرت الزراعة والصناعة والتجارة بشكل دراماتيكي مما يؤثر على مستوى الدخل القومي ومستقبل التنمية والرفاه الاجتماعي. الشعوب التي مر عليها ربيع التغيير تعاني أصلاً من الكساد والركود الاقتصاديين والبطالة المتزايدة بسبب سوء وفساد الإدارات المتعاقبة سابقاً. أضاف ربيع التغيير عليها مآسي كثيرة.

تأثرت المساعدات الخارجية بموجة التغيير خاصة وأن الدول المانحة باتت تعاني من الكساد والأزمات المالية الحادة. تريد الدول المانحة مبرراً كافياً للتخلي عن التزاماتها إزاء الدول النامية في دعم برامج الأخيرة التنموية. تعتمد دول العالم العربي على الدعم الخارجي بشكل مؤثر لا تتمكن من الاستغناء عنه.

أدمنت الركون إلى العون الخارجي بالرغم من شحه النسبي. بات وقف المساعدات الخارجية عن الدول العربية أو تقليصها يساهم في تفاقم الأوضاع الاقتصادية والإدارية والاجتماعية، خاصة في الدول التي تجري فيها عمليات التغيير بالثورة والانتفاضة الشعبية العارمة. ضُربت السياحة بشدة بسبب حالة الفوضى التي انتشرت إبان وبعد سقوط الأنظمة الحاكمة السابقة.

تعتمد دول العالم العربي خاصة مصر ومنطقة بلاد الشام وتونس على السياحة كمصدر مهم للعملة الصعبة. ملايين السياح يزورون المنطقة العربية سنوياً في الظروف العادية؛ يثرونها بالسيولة المالية الصعبة. هؤلاء السياح هبطت أعدادهم إلى درجة كبيرة مما يهدد قطاعاً واسعاً من الاقتصاد. أيضاً أصيبت برامج النهضة بالسياحة المختلفة بالشلل، من ترميم لبعض المواقع التاريخية والأثرية واكتشاف المزيد منها. أصيبت البرامج الدعائية السياحية بالتراجع والتأزم والاضطراب.

الحالة التعليمية على المدى القريب والبعيد تأثرت بسبب إصابة الجهاز التربوي والتعليمي بالجمود أو الانكماش أو الاضمحلال. تعطّلت العملية التعليمية وبدأت أوضاعها بالتفاقم منذ اليوم الأول لبدء ربيع التغيير. أغلقت المدارس والجامعات أبوابها وهرب الطلبة والمدرسون خوفاً من الاشتباكات الدموية التي لا توفر أحداً. المشكلة التعليمية في حالة تفاقم في المدى المنظور والبعيد. النزف التعليمي والثقافي والفكري أصاب العقول العربية.

حتى الدول التي استقرت بها الأحوال قليلاً بعد التغيير لم تزل تعاني الفوضى والإرباك وغياب الاستقرار. هذه عوامل جميعاً تجعل من البدء بعملية تنمية ولو بشكل ضيق في حكم المتعذر. لم تزل الأمور غير سوية أو مستقرة بين الأحزاب الجديدة الحاكمة؛ خاصة بين الراديكالية والأصولية من جهة، والليبرالية العلمانية من جهة أخرى. يشهد على ذلك ما يجري في العراق وتونس وليبيا واليمن، ومصر! في طريقها للالتحاق بهذه المجموعة. هنالك تخلف واضح في تنفيذ برامج التطوير والتنمية والتحديث. إن يستمر الحال على ذلك طويلاً فسوف تؤدي الأمور إلى حدوث انهيارات أكثر في البنية التحتية وبرامج تطويرها.

طبقة العمال والمهنيين والحرفيين نالها الكثير من التأزم وانتشار البطالة وعدم الاستقرار. تدني مستوى الأجور والدخل وفرص العمل السانحة بسبب حالة الكساد وهرب الأموال إلى الخارج. ذلك ما وضع طبقة عريضة من المجتمعات أمام واقع مأساوي ومصير مجهول. العمال العرب يبحثون عن مصادر بديلة للرزق في دول الجوار والدول البعيدة. يشهد على ذلك ما يجري في مياه البحار من حوادث هرب العمال والكفاءات وحملة الشهادات إلى الخارج. بات الوضع الاقتصادي في بلاد العرب لا يُطاق بالنسبة لهم.

على الإدارات الجديدة أن تواجه الواقع وتجلس مع نفسها وتضع خططاً للتنمية. عليها أن تثبت جدارتها في قيادة البلاد والعباد نحو بر أكثر أماناً. الوطن العربي يزخر بالإمكانيات التي إن تُستثمر جيداً ستجعل من الاستقرار البنّاء أمراً ممكناً. خلال فترة وجيزة نسبياً ستنجز خطوات واسعة في التنمية تريح أجيالها والدول المجاورة من حالة غير مرغوب بها اقتصادياً واجتماعياً وإدارياً، وسياسياً. حالة حلّت بسبب اتباع منهجية التغيير العشوائي الفوضوي غير المنظم.

Email