الشباب العربي المنتفض وتحديات التغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

شارك الشباب العربي في جميع الانتفاضات العربية ودفعوا مئات الضحايا وآلاف الجرحى. لكن دورهم السياسي الفاعل بعد نجاح الانتفاضات بقي مغيباً، رغم أنهم ما زالوا يملؤون ساحات الحرية دفاعاً عن وجودهم ومستقبلهم. وقد تهكم بعض المثقفين المحبطين على الدور الهزيل للشباب العربي، فاستذكروا نظرية طريفة تقول بأن انتفاضات الدول النامية يفجرها الشباب، ويستغلها الانتهازيون، ويحاول تصويب مسارها الحكماء.

مع ذلك، تؤكد الوقائع الدامغة أن العالم العربي بعد انتفاضات عام 2011 لن يبقى كما كان قبلها. فقد سقطت أنظمة عربية عدة وما زالت أخرى مهددة بالسقوط. وكسر الشباب العربي ومعه الجماهير الشعبية حاجز الخوف من أنظمة القمع العربية التي تهاوى بعضها بسرعة. ووجه الشباب نضالهم في الاتجاه الصحيح لقطع الطريق على التوجهات الطائفية والعرقية والقبلية التي تحمي الأنظمة القائمة. لذلك شكلت نضالات حركة تمرد في مصر مدخلاً لإسقاط حكم الإخوان بمصر. وتعمل حركة تمرد في تونس اليوم على إسقاط حكم حركة النهضة التونسية وتصويب مسار الانتفاضة الشعبية فيها.

لذلك يستحق تحرك الشباب العربي لحماية الانتفاضات من الانحرافات الخطيرة دراسة معمقة لأنها ظاهرة إيجابية تضع القوى الشبابية في موقع التغيير الجذري والسليم. وبقدر ما تتعزز نضالات الشباب الوطنية وغير الطائفية على أرض الواقع تنفتح أمامهم آفاق واسعة لبناء مستقبل أفضل. وهم مطالبون ببلورة مشروع سياسي علماني، وبتقديم حلول عقلانية للقضايا الوطنية والسياسية والمعيشية كالغلاء والبطالة والفقر والسكن والصحة والتعليم وغيرها.

أدرك الشباب أنهم قوة التغيير الأساسية والأكثر قدرة على إسقاط النظم الطائفية والقبلية القديمة وبناء نظم سياسية وطنية على أنقاضها. وقد بدأت مرحلة القطع مع ركائز الاستبداد وفتح آفاق ديموقراطية تضمن للشعوب العربية الخبز مع الكرامة، والأمن والاستقرار، وتحقيق المطالب المزمنة، وإطلاق وسائل إعلام حرة وفاعلة.

وعندما تحالفت الحركات الأصولية والتكفيرية مع زعماء القبائل والطوائف، ورموز الفساد والإفساد استعاد المد الشبابي الجماهيري دوره الفاعل في حماية الوحدة الوطنية المهددة بالتفكك. فمنعها شباب مصر وتونس من إعادة إنتاج النظام الاستبدادي السابق على أسس طائفية وقبلية. ووقفت القوى الشبابية بصلابة ضد قيادات سياسية توظف الدين في السياسة كأيديولوجيا مجربة لتشويه الوعي الوطني والاجتماعي لدى جماهير شعبية مفقرة ومهمشة وعاطلة عن العمل. علماً أن الوعي الديني والقبلي المؤدلج لم ينتج في الدول العربية سوى نظم سياسية مفككة، ودول قمعية لم تعد قادرة على إخفاء الوجه البشع للطبقة السياسية المسيطرة.

لقد فتحت انتفاضات الخبز مع الكرامة والديمقراطية آفاقاً جديدة للنقاش الحر حول قضايا أساسية تشكل خارطة طريق لبناء مجتمع مستقر تسوده العدالة والمساواة في كنف دولة ديمقراطية. وهي مدعوة اليوم لاستكمال المعركة ضد قوى القمع والاستبداد ومنع تجددها، وبناء نظم ديمقراطية سليمة وقادرة على إنجاز التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة.

ومن أولى واجبات الشباب العربي في المرحلة الراهنة أن يعارض بشدة القوى السلطوية القديمة أو المتجددة التي منعتهم من لعب دورهم الفاعل في عملية التغيير الديموقراطي. وهم مطالبون، في حال مشاركتهم في السلطة، بضمان حرية الكلمة والفكر والتعبير كقيمة مطلقة لا يجوز التراجع عنها. وذلك يتطلب إيجاد حلول معمقة لبناء نظام سياسي ديمقراطي، يتبنى الاقتصاد الليبرالي المراقب بدقة من المؤسسات المالية الرسمية، واحترام الحريات الخاصة والعامة.

كما أن الشباب المنتفض مدعو إلى تنشيط مؤسسات المجتمع المدني لكي تتحرك بفاعلية وتمارس دورها الطبيعي في حماية المصالح الشعبية وتعزيز دور الطبقة الوسطى فيها بما يساعد على ضمان الأمن السياسي والاستقرار الاجتماعي. وعليها المشاركة في تنفيذ خطط التنمية الشاملة على قاعدة التوزيع العادل للثروة الاقتصادية، ومنع الفساد الإداري والمالي، وممارسة الرقابة الشعبية والأخلاقية والمهنية لإعادة الثقة المفقودة منذ عقود بين القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني.

بإمكان القوى الشبابية المنتفضة أن تلعب الدور الأساسي في تنشيط مؤسسات الدولة وتسيير شؤونها على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فنجاح الانتفاضات الشبابية أو فشلها رهن بقيام إدارة عقلانية ذات كفاءة مهنية وأخلاقية عالية.

ومن أولى واجباتها الحفظ على الحقوق البديهية للإنسان والتي كانت مغيبة في كثير من الدول العربية، ومنها أن الناس ولدوا أحراراً، وأن لكل فرد الحق في الحياة، والسكن، والتعليم، والأمن الشخصي والجماعي، وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، بقطع النظر عن دينهم ولغتهم وجنسهم وانتمائهم السياسي. يضاف إلى ذلك أن نجاح الانتفاضات الشبابية يفتح الباب واسعاً لتشكيل أحزاب سياسية جديدة تعطي للشباب موقعاً متقدماً في عملية التغيير الجذري. فغالبية الأحزاب السابقة كانت سلطوية أو تخضع لضغوط أجهزة القمع.

لكن ما يدعو إلى التفاؤل اليوم أن الشباب المنتفض في مصر سار على طريق بناء نظام سياسي بتوجهات ديموقراطية وليبرالية غير طائفية. ومن المتوقع قيام أحزاب سياسية في العالم العربي على أسس جديدة تحترم حرية الرأي لدى أعضائها أولاً وعلى المستوى الوطني العام.

ويدرك قادة الانتفاضات الشبابية أن التاريخ لا يرحم. ولا ينسى ما قاموا به من أعمال رائدة أسس لولادة مرحلة متقدمة وغير مسبوقة في تاريخ العرب المعاصر. وفتحوا آفاقاً جديدة للتغيير السلمي بأسلوب ديمقراطي، ودافعوا عن حرية الرأي والتعبير ودعوا لبناء حكم ديموقراطي على أسس عقلانية.

يعيش العالم العربي اليوم مخاضاً عسيراً للغاية لأن إسقاط النظم القديمة يفترض بالضرورة بناء نظم ديمقراطية جديدة على أنقاضها. وذلك يتطلب قوى شبابية متماسكة وقادرة على حماية إنجازاتها، ومواجهة القوى المعادية للتغيير الديمقراطي.

وبعد سقوط عدد من أنظمة القمع والقهر والاستبداد في العالم العربي، لا بد من استكمال مسيرة التغيير الديمقراطي وبناء الثقة المفقودة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني. وباتت القوى الشبابية بحاجة إلى عمل دؤوب لحماية مكتسبات الانتفاضة وبلورة رؤى عقلانية رصينة تشكل خارطة طريق مدروسة لتنفيذ المهمات الصعبة والمعقدة التي انتدبت نفسها للقيام بها. وهي تدرك جيداً أن قوى الثورة المضادة ما زالت قوية ومتماسكة ومدعومة داخلياً ومن دول إقليمية وعالمية كبيرة لا تريد أن يكون للعرب دور فاعل في التاريخ العالمي.

Email