عاصفة باسم يوسف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يتقابل مصريان في الأيام القليلة الماضية دون أن يسأل أحدهما الآخر: شفت باسم يوسف. بل أن مصرياً هبطت طائرته إلى مطار القاهرة قادماً من الولايات المتحدة، وقد غاب فيها ثلاثة أشهر متصلة، وبمجرد أن أخذ مستقبليه بالأحضان في عجالة سألهم: هل رأيتم برنامج باسم يوسف وما رأيكم؟ وراحوا طول رحلة العودة من المطار إلى البيت وهم يتحدثون عن فقرات "البرنامج" في ثوبه الجديد بعد انقطاع دام ما يقرب من ١٧ أسبوعاً.

يمكن أن نصف ما جرى مساء الجمعة الماضي بأن عاصفة باسم يوسف ضربت مصر بقوة، والمدهش أن المصريين انقسموا حوله انقساماً شديداً، فهو لم يعجب الإخوان كالعادة، ولم يعجب أصحاب ٣٠ يونيو وهذا هو الجديد.

بل أن حرباً ضروساً اشتعلت على شبكة التواصل الاجتماعي عقب نهاية البرنامج ولم تتوقف حتى الآن، ويبدو أنها ستظل فترة إلا إذا أن تدخلت قوات لحفظ السلام وعقدت هدنة مؤقتة بينهما.

وبالفعل يستفز البرنامج جحيماً من التساؤلات والاستفسارات، إذ راح ينتقد كل شيء وأي شيء، الإخوان والاعتصامات والإعلام و٣٠ يونيو والرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور، ومؤيدي الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع، ومهاجمي ثورة ٢٥ يناير، لم يفلت من أنيابه لا شخص ولا حدث ولا موقف، وهذا النقد الشامل الملفوف بسخرية فاقعة بعضها بذيء عمداً، بدا غامضاً غير واضح الأهداف عند البعض، وخبيثاً فيه كثير من السم في العسل عند البعض الآخر.

كما لو أن باسم يوسف هو الفيلسوف ديوجين وبرنامجه هو المصباح الذي كان ينتظره الجميع لينير لهم الطريق المعتم، ولم يتعامل أحد معه على أنه "مقدم برنامج" ساخر، يحمل وجهة نظر خاصة جداً فيما يجري في وطن مأزوم تستنزفه صراعات مباشرة على السلطة بين جماعة الإخوان والدولة، وصراعات غير مباشرة بين نظام قديم يستميت في الدفاع عن نفسه ونظام جديد يلوح في الأفق منذ أكثر من عامين دون أن تظهر ملامحه بعد، وقد يتصور كثيرُ أن الصراع المباشر على السلطة هو الأخطر على مصر، وهو المعطل لخروجها من المأزق الراهن، وهذا غير صحيح، فأخطر ما يحيق بها ويستنزفها بخبث هو الصراع غير المباشر بين القديم والجديد، فالقديم يقطع الطريق على الجديد بقوة وإصرار ويعمل على وأده قبل أن يولد، ويصنع من الأزمات والمصائب ما يدفع بالمجتمع إلى متاهات تشغله عن هدفه الأسمى وهو تغيير نظام ثبت فشله وفساده تماماً.

المهم أن المصريين تعاملوا مع باسم يوسف كما لو انه فيلسوف أو مفكر استراتيجي أو عالم سياسية، فأخذوا البرنامج على أعصابهم الملتهبة أصلاً، وكان طبيعياً أن يمسكوا في خناق بعضهم البعض بالكلمات عقب نهاية الحلقة الأولى في الموسم الجديد، بل أن خبيراً إعلامياً خرج على الناس وراح يمزق في البرنامج والمذيع واصفاً الحلقة بأنها "كانت بلا هدف، ولا مضمون إلا التطاول على الرموز، وليس من حق باسم أن يتعرض بإسفاف لرموز مصر الشرفاء، فهناك خط أحمر لاحترام هيبة وكيان الدولة المصرية".

وقد خصص باسم يوسف وقتاً غير قصير، ثلث الحلقة تقريباً لما اعتبره انقساماً في مصر بين الذين يصفون ما حدث في ٣٠ يونيو بأنه ثورة شعبية والذين يصفونه بأنه انقلاب عسكري، ولم يكن توصيفه دقيقاً ولا صحيحاً، فهذا الانقسام ليس واسعاً إلى الدرجة التي تبدو فيه مصر موزعة بين طرفين، فأغلبية المصريين يصطفون خلف فكرة الثورة، لأنهم هم الذين استدعوا الجيش للتدخل، ولم يعتل الجيش خشبة المسرح بالإكراه أو غصباً عنهم، بل أنه نفذ إرادة الناس كما عبروا عنها بالضبط!

وحكاية الانقسام المتساوي فكرة أميركية في الأصل، لا تدعم فيها الإدارة الأميركية فصيلاً على حساب فصيل، وهي لا تصلح مع باسم يوسف، لأنه ليس طرفاً أجنبياً محايداً، وتصويره الانقسام على هذا النحو المبالغ فيه، قد يتجاوز هدفه السخرية ولفت الانتباه إلى تأييد وجهة النظر الداعية لهذه الفكرة. وهي فكرة تسعى إلى مصالحة بين الجانبين المنقسمين، مصالحة تعيد الإخوان إلى خشبة المسرح لاعباً محورياً، سواء أكان ذلك لمصلحة مصر أم ضد مصلحتها.

أما فقرة الفريق أول عبدالفتاح السيسي فهي التي نالت القدر الأكبر من الجدل والصراع، ويبدو أن باسم يوسف كان يواجه تحدياً هائلاً بغياب الرئيس المعزول محمد مرسي، ولم يشأ أن يرتبط نقده برئيس سابق فقط، وأنه يخاف من السلطة الحالية، فبدا لو كان مضطراً إلى نقد الرئيس المؤقت نقداً مريراً، على عدم إحساس الناس بوجوده كثيراً، بل إن البعض لا يعرفه من كثرة غيابه عن مسرح الأحداث، ثم انتقل إلى الفريق أول عبدالفتاح السيسي ومؤيديه. ومازالت الحرب الكلامية دائرة حول هذه الفقرة، خاصة أن كتب تغريدة تقول: لن أقف في صف من كفرونا ولست مع النفاق والفرعنة..

وينتظر المصريون أن يقول لهم هو مع من إذن؟!

Email