التجسس وفضيحة القرن

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل قضية التجسس على فرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى تعكس مدى توجس واشنطن من تزايد خطر الاتحاد الأوروبي عليها؟ لا نقصد بالخطر من حيث القوة العسكرية أو لحظة التصادم  ولو أن ذلك أمر غير مستبعد مع مرور الزمن حين ستتضارب المصالح الكبرى ويتحول الصديق فجأة إلى عدو  ولكننا نعني خطراً على هيمنتها والمكانة التي احتلتها الولايات المتحدة على مدى خمسين عاماً بدأت مع نهاية الاستعمار البريطاني والفرنسي في المنطقة.

بالطبع تزول الدول كما تزول الحضارات، لكن لا أحد يتمنى في الوقت الراهن زوال قوة بحجم الولايات المتحدة الأميركية، لا لإعجابنا بها ولكنها تمثل ربما أقل الأمم الكبرى خطراً وضرراً على الشعوب الصغيرة. ثم أنه لولا قوتها وسلطة كلمتها لاختلط الحابل بالنابل وأكل الكبير منا الصغير. ورغم رفضنا بل عداءنا لسياستها الشرق أوسطية فيما يتعلق بالكيل بمكيالين إلا أنها في نهاية المطاف أقل المرين مرارة.

الولايات المتحدة لا تبحث سوى عن لقمة العيش حيثما وجدت، ولا يعنيها دين ولا ثقافة ولا تحاول إضافة مساحة إلى مساحاتها الشاسعة. بمعنى أنها لا تهتم بديانات الشعوب وماذا تقرأ ما دامت تسهل لها الحصول على موردها الأساسي وخصوصاً النفط. بينما هناك دول تعد نفسها عظمى (وهي ليست كذلك) ولكنها إضافة إلى غاياتها الاستعمارية المادية تعمل على مسح ثقافة الشعوب التي تهيمن عليها.

وهناك دول أكثر شراهة وطمعاً، فبالإضافة إلى الأهداف المادية والثقافية ترمي إلى إضافة مساحة شبر إلى مساحتها. وربما يكون العرب من بين شعوب العالم أكثرها خبرة في مسألة التعامل مع الدول العظمى، لكونها ما زالت تتلقى دون القدرة على الاعتراض التعليمات الصادرة إليها من الجهات العليا. بل أكثر من ذلك، هناك دول أو أحزاب أو طوائف شرعية في هذه الدول تطلب التدخل الخارجي والهيمنة الخارجية عليها لحمايتها.

من هنا استغلت دول كفرنسا وألمانيا وبريطانيا ولنقل بشكل أوسع الاتحاد الأوروبي هذه الفرص لا لغزو أميركا بالطبع وإنما لتشجيع الدول التي هي على وشك أن تفر من فلك الولايات المتحدة إلى حضنها. وهذه الدول أو أنظمتها أو أحزابها التي كانت إلى ما قبل سنتين تنام مطمئنة البال تحت جناحي الولايات المتحدة بدأت تشعر بالقلق، خاصة بعد أن أثبتت انفجارات الربيع العربي المتوالية وبما لا يدعو للشك - عدم قدرة الولايات المتحدة على نجدة حلفائها في الوقت المناسب - شعرت بأنه قد حان الأوان للبحث عن بديل يبدد خوفها مرغمة وليس عن قناعة.

وما يحزن المعجبين بقوة وسلطان الولايات المتحدة الأميركية أنها تحولت وللأسف الشديد من دولة عظمى يخافها الكبار قبل الصغار إلى دولة تتجسس على جاراتها الصغيرات، فما حاجة الولايات المتحدة إلى مكالمات ميركل أو هولاند أو زعماء أوروبا المغمورين، وهي التي كانت منذ منتصف القرن الماضي تسكتهم بإشارة واحدة من أصبعها؟

بكل تأكيد شعرت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة بأنه تم خيانتها من خلف الستار من قبل أقرب حلفائها في الخارج بينما كانت منشغلة في عقر دارها بتداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة عليها، وتكلفة حروبها الخاسرة في أفغانستان والعراق وفشلها الأخير في حل الأزمة السورية على طريقة الكاوبوي..

وبروز الدور الروسي على مستوى المنطقة وأنها غير قادرة في مثل هذه الظروف على الانتقام لنفسها كي لا تخسر ما تبقى ممن كانت تعتقد أنهم حلفاؤها. فوجدت نفسها تلجأ إلى ما تفعله النساء الغيورات من التجسس على ما تبيته شريكاتها خلف ظهرها! إنه دليل ضعف وقلة حيلة...

التجسس ظاهرة موجودة منذ بداية التاريخ البشري، ويصبح شرعياً لغرض حماية الوطن والأمن القومي، وكل دول العالم تلجأ إليه ومنها فرنسا وألمانيا. لكن هاتين الأخيرتين استغلتا هذه الفضيحة الأخلاقية لصالحهما بهدف إضعاف دور وسمعة الولايات المتحدة تمهيداً لاستلام مقاليد حكم العالم الثالث منها واستغلال موارد البلدان الفقيرة لتعويض ما فاتها من حصة الأسد على مدى ستين عاماً من الهيمنة الأميركية.

 

Email