«الإخوان» والتقدم إلى الخلف

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبدو جماعة الإخوان في حالة نفسية وعصبية مستعصية على العلاج، وفرضت عليها نوعاً من الارتباك الشديد في قراراتها وتصرفاتها، حتى تمثلت قولاً شائعاً من فيلم عربي قديم "كل ما تتقدم خطوة ترجع خطوتين"، وهي تحاول الخروج الآمن من المأزق السياسي والوجودي الذي حشرت نفسها، وتكاد تختنق داخله!

وكلما صنعت لها الظروف "ثغرة" في النفق للعودة إلى الساحة المصرية تسدها مع سبق الإصرار والترصد، وهي تتصور أنها توسع من مساحتها للنفاذ منها بشروطها، فتتراجع خطوتين إلى الخلف أبعد مما كانت عليه!

وكانت آخر المحاولات هي مبادرة الدكتور أحمد كمال أبو المجد، أستاذ القانون والمفكر الإسلامي المصري المعروف، وبالرغم من الامتعاض الشعبي الذي قوبلت به، إلا أن السلطات المصرية قابلتها بالصمت "المعلن"، فالسكوت علامة الرضا، وفتحت شاشة التلفزيون المصري أمام الدكتور أبو المجد يشرح مبادرته باستفاضة، ويشن هجوماً على معارضيها من الكتاب والإعلاميين والسياسيين والشخصيات العامة.

ولاح من كلامه أن ثمة بارقة أمل، في أن يعود بعض العقل إلى قيادات الجماعة، باستبعادهم عودة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى قصر الرئاسة، والاعتراف بالأمر الواقع الذي فرضته إرادة الشعب المصري في ٣٠ يونيو الماضي مع بعض التحفظات، التي تسمح بمصالحة تتيح للجماعة المشاركة في صناعة مستقبل مصر!

وفي الحقيقة لم يكن ممكناً لهذه المبادرة أن تنجح لأسباب سنشرحها لاحقاً، ولم يكن شاذاً أن يصدر الدكتور محمد علي بشر وزير التنمية المحلية السابق عضو مكتب الإرشاد بياناً يسد الثغرة كالعادة ويرجع بالجماعة إلى المربع ناقص واحد وليس المربع صفر، بالحديث عن الشرعية والإبقاء على دستور ٢٠١٢، الذي لم يعد له وجود، واستبدل به المصريون مسودة دستور جديداً مطروحاً للنقاش العام، وقد أثار البيان دهشة الدكتور أبو المجد، ووصفه بالتناقض، ولم يعتبره رداً نهائياً، فهو لم يتسلمه ولم تتصل به الجماعة، ولم تنته المدة الممنوحة للرد رسمياً وهي خمسة أيام.

وبالقطع يستحيل أن تصل أي جهود وساطة أو مصالحة بين الجماعة والدولة المصرية إلى ساحات مفتوحة، فالطرق وعرة ومسدودة دوماً، ونهاياتها تفضي إلى جدار عالِ جداً يعزل بين الجانبين، لا يستطيع الإخوان تسلقه، ولن ترفع الدولة معاولها لهدمه، فالإخوان لا يعترفون بأي أخطاء يرتكبونها، ولا يتصورون ذلك أصلاً، ويظنون أن كل النكبات التي تحدث لهم هي ابتلاء واختبار من السماء لبيان مدى إيمانهم وتمسكهم بالعقيدة، وإذا تحملوه فإن نصر الله قادم لا محالة، وقد كتبت عزة الجرف عضو مجلس الشعب السابق عن الجماعة على صفحتها بالفيسبوك: نرفض مبادرة الدكتور أبو المجد، فلا تنازل عن عودة مرسي والدستور ومجلس الشوري، الله يمتحن صبرنا وإيماننا وثقتنا فيه وفي وعده وعهده بنصرة المؤمنين وبنصرة المظلوم وبنصرة دماء الشهداء.

اصبروا على ما أنتم فيه واحمدوا الله على وقوفكم إلى جانب الحق ودفاعكم عنه فهي نعمة الآن تستوجب منا الشكر لله.. أبشروا فالنصر قادم''. هذه هي مأساة الإخوان، يظنون أنفسهم المسلمين الأوائل، وأن بقية المصريين هم أهل قريش في الجاهلية، وأن ما يحدث للجماعة هو نفس ما حدث لهؤلاء المسلمين، الذين أعزهم الله ونصرهم وفتح لهم مكة وبسط نفوذهم على الدنيا كلها.

وبالطبع الحالة النفسية والعصبية التي عليها الإخوان تغشي بصيرتهم وتمنع عنهم رؤية الفوارق الرهيبة بين الإسلام في دعوته الأولى بقريش، والإسلام بعد ١٤ قرناً في مصر، وأن المرشد ومكتب الإرشاد ليسوا أهل الرسالة ولا هم الصحابة، وأن المصريين ليسوا أبو لهب وأبو جهل ولا أم جميل حمالة الحطب ولا هند بنت عتبة ولا عبدة الأوثان!

أي أن الصراع في مصر على السلطة والدولة وليس على الإسلام والإيمان..

هذه واحدة.. والأخطر منها أن قيادات الجماعة توحشت في خصومتها مع الدولة المصرية، إلى حد العمل على هدم الدولة نفسها، بتعطيل الطرق والمواصلات العامة والتحريض على سحب أموال المودعين من البنوك، وغلق أبواب العمل والمشروعات ومنع الدراسة في الجامعات، وكلها تحت مطالب مستحيلة التنفيذ وهي عودة الرئيس محمد مرسي المعزول ومجلس الشوري المنحل والدستور المعطل.

باختصار أغلقت الجماعة كل المنافذ وحبست نفسها في نفق معتم، ولا تملك قيادات شُجاعة تقدر على كسر السلاسل الفولاذية المقيدة فيها وتخرج على أعضائها تدعوهم إلى مراجعة المواقف.

المدهش أن الذين يتقدمون بمبادرات للمصالحة يتجاهلون عمداً تاريخاً طويلاً من "العداء" للدولة، لم يبدأ ضد جمال عبدالناصر في صدام عام ١٩٥٤، ولكنه قبلها بعشرين سنة، مع تأسيس النظام الخاص على المصحف والمسدسات، وقد مارست الجماعة عنفاً واسعاً في الأربعينات من القرن الماضي، سعياً إلى السلطة: اغتيالات لسياسيين وشخصيات عامة، تفجيرات في وسط القاهرة، مصادمات دموية مع حزب الوفد صاحب الأغلبية، وكل ذلك قبل أن تصل المؤسسة العسكرية إلى السلطة بثورة يوليو ١٩٥٢.

وأتصور أن عقل الجماعة لا يفهم لغة المصالحة، فلا مصالحة - في تصوره - مع أهل قريش، وإنما فتح وحكم وخلافة، وهو ما لن يقبله المصريون أبداً.

Email