لا يحدث إلا في الحج

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كل عام هجري فقط في مثل هذه الأيام، يعيش المسلمون لحظات مهيبة لجلالة الموقف وهيبة المشهد وعظمة التحذير، ولكنها لحظات مليئة بالتناقضات التي تدعو إلى اللوعة التي تسبق غضب الله.

لا أحد يمكنه أن يصدق أن هذه الملايين كلها تسير في اتجاه واحد وتؤمن برب واحد ورسول واحد وتمارس الشعائر نفسها وتقرأ آيات الكتاب الحكيم نفسها، وهي نفسها التي تبكي أمام مشهد الأكفان التي تحيط بها وهي تحيط نفسها بها تذكرة بنهاية ابن آدم آجلاً أم عاجلاً، وأن مثواه التراب ومصيره الحشر ونهايته الحساب يوم القيامة.

كل شعيرة من شعائر الحج حكمة وتذكرة لمن يتذكر ولمن نسي أن يتذكر ولمن يخشى الرحمن بالغيب. هذا الدوران الذي يمثل دوران الكرة الأرضية والكواكب والنجوم والمجرات والأفلاك بالنظام والدقة نفسه ولكن عكس اتجاه عقارب الساعة، لأن عقارب الساعة تشير إلى زيادة الزمن، بينما الحاج والكواكب والأفلاك تسير عكس هذا الاتجاه، فكل 24 ساعة تمر هي في الحقيقة والواقع اقتطاع 24 ساعة من عمره. وهذا السعي يمثل سعي الإنسان في حياته مشياً وهرولة وتعباً وكداً خلف رزقه ثم خلف لا شيء إلا رحمة ربه.

وهذا الوقوف بعرفات، هو موقف مصغر ليوم الحشر لا يستر الإنسان فيه شيء سوى من رحم ربي.

وهذا ماء زمزم سر الحياة الدنيا، و رمز لآية "وجعلنا من الماء كل شيء حي" وهذه الأرقام السبعة المتكررة في الحج بعدد السماوات السبع والأيام السبعة والآيات السبع والبحار السبعة، الرقم السري السحري الغامض الذي لا يمكن أن نفك رموزه.

الوقوف بعرفه، رمز كل شيء، رمز النهاية، نهاية الطواف والسعي والحياة والموت، إنه أشبه ببروفة صغيرة تقدم مجاناً لكل من حضر الحج أو شاهده أو سمع به، بروفة سريعة لمشهد يوم الحشر الطويل المخيف ويوم الوقوف للحساب أمام الواحد القهار، فإما النجاح السرمدي أو الفشل السرمدي، وإما الجنة الأبدية اللامتناهية أو النار التي ليس لها قاع ولا نهاية. هذا الموقف يجب ألا يفارق أعيننا لحظة واحدة ونحن نصلي ونصوم ونسعى في حياتنا الدنيا، أو لنستذكره على الأقل لحظة واحدة قبل النوم وقبل الأكل وقبل الظلم، سواء أكنا ملوكاً أو مملوكين حكاماً أو محكومين أغنياء أو فقراء ظالمين أو مظلومين منعمين أو معدومين.

أمام هذا المنظر المهيب لهذه الملايين التي لفت نفسها بالأكفان البيضاء والتي تسير متلاصقة في أفواج لا أول لها ولا آخر جنباً إلى جنب في حرم الكعبة المشرفة وفي الطريق إلى عرفات وإلى مزدلفة ومنى وفي لحظات رمي الجمرات، كيف أن هؤلاء الأخوة المتحابين هنا هم أنفسهم المتقاتلون بعد نهاية هذه الأيام العظيمة؟ كيف أن هذا أو ذاك الرجل الذي يكاتفك أمام الله ويصلي بكل خشوع وهو يبكي بحرقة الضائع ورغبة الطامع والذي يقف مرتجفاً أمام هيبة الخالق يستغفره من عظيم معاصيه ويطلب عفوه ورحمته هو نفسه الذي سوف يحمل سلاحه بعد نهاية المشاعر ليقتلك وأنت مسلم مثله بكل برود أو يلعنك بغير حجة، لأنك اختلفت معه في الرأي أو المذهب أو التفسير ناسياً بأنك اتفقت معه على كل ما يرضي الله ورسوله؟

كيف لهؤلاء ألا يتعظوا من رحمة الخالق ومن تسامح العقيدة الإسلامية، فإذا بهم فرقوا دينهم شيعاً، وتحاربوا وتقاتلوا فجعلوا الكراهية لغتهم إلى التفاهم والتفرقة فهمهم للتعاون والجبروت وسيلتهم إلى الرحمة والقتل مظهراً من مظاهر التسامح؟

وما أن يخرج الحجاج من بيت الله ويعودوا إلى ديارهم حتى يعود معظمهم إلى زمن الجاهلية الأولى، في تربيتهم لأبنائهم وعلاقاتهم مع أهليهم وتعاملاتهم مع أصحابهم.

في يوم غدٍ في وقفة عرفات، المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، من كل الأجناس والألوان والمذاهب واللغات يجمعهم رب العرش في موقف ليس مثله موقف إلا يوم القيامة، اختلطت فيه أجناسهم وألوانهم ومذاهبهم ولغاتهم وربما اختلفت قلوبهم ونياتهم. فهل يكون يوم غد يوماً تتصافى فيه القلوب بين المسلمين ليعود الإسلام كما كان؟ أم سنظل نتخبط في ممارسات الجاهلية الأولى؟

Email