الحالمون يغيرون العالم

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل عاد المصريون إلى عالم الأحلام بعد سنوات من العبوس؟ وهل كانت عودتهم دافعا إلى تغيير واقعهم المتخم بالمتاعب والأزمات أم هروبا منه؟!

قطعا، ملامح الوجوه تغيرت في الشهور الثلاثة الأخيرة، رغم الاضطرابات التي تصنعها جماعة الإخوان عمدا، لتكدر صفو الحياة وتزيد حدة المشكلات. لكن من السهل أيضاً اكتشاف معنى الحلم في الوجوه وهي واقفة على محطات الأوتوبيس أو داخل عربات مترو الأنفاق، أو عابرة في إشارة مرور، أو منكبة على أوراق عمل، أو منفعلة في حوار.. الخ؛ الحلم بأن يكون غدهم أفضل من حاضرهم، وأن أجيالهم الجديدة تنتظرها حياة أكثر أملا وجمالا وخيرا وعدلا.

والجمال والخير والعدل كانت وما زالت أهم القيم الدافعة إلى تطور المعارف الإنسانية وأساليب الحياة على كوكب الأرض، وكان الحلم دوما هو جسر البشرية الذي تعبره من واقع لا ترضى عنه إلى واقع جديد تسعى إليه وتتصوره أحسن حالا.

ولو راجعنا تاريخ الحضارات الإنسانية من مصر القديمة إلى الصين إلى اليونان إلى روما إلى الجزيرة العربية إلى فارس إلى فلورنسا فلندن فواشنطن، سنجد أن الشعوب التي لا تحلم تفقد بوصلة الطريق، وتتخبط في الدروب والتجارب والمحاولات، ولا تعثر على مفتاح التحديث لنفسها، وتظل "أسيرة" لماضيها معلقة فيه بسلاسل ثقافية أشد قسوة وصلابة من قيود الفولاذ!

الشعوب غير الحالمة تحتل عقلها صغائر الأشياء ويشدها تافه الأمور ويلهيها لغو الثرثرة وتشغلها مواضع أقدامها، وتبدو مثل أي كائنات في مملكة الحيوان؛ من أول البرغوث إلى الفيل، لا تعيش إلا بغريزتها ولا تحركها إلا معدتها.. فهل عرفتم فصيلة من الحيوانات تمكنت من العلو على طباعها المتوارثة واكتسبت طبائع مختلفة وقفزت بنمط حياتها وصنعت تاريخا مختلفا عن تاريخ أسلافها؟

نعم، ندرك أن العقل بقدراته هو العنصر الفاعل في التطور.. لكن أيضا البشر جميعا يتمتعون بهذا العقل، مهما كان نصيبهم منه وافرا أو شحيحا.. فكيف صنع بعضهم حضارات عظيمة واستحدث أنماطا من السلوك والعادات وقيم العمل والعلم، وبقى بعضهم على حاله يجري في مكانه أو مس الحضارة مسا خفيفا دون استحداث تلك الأنماط؟ الفارق، هو الحلم الذي يغير النظم ويطور الأساليب.. والأحلام الدافعة غير الأوهام المرضية.

وقبل أيام شاهدت فيلما أميركيا بديعا من واقع الحياة، فيه الحلم هو وقود التقدم في المجتمع، ويروي حكاية شاب فقير عبقري لم يكمل تعليمه الجامعي، لكنه عشق المعرفة والقراءة والتعلم وُجنَ بعلم الرياضيات، وكانت حياته جرعات من البؤس والمعاناة والألم في دور أيتام وبيوت أسر بديلة عديمة الرحمة، فترعرع عدوانيا متمردا فيه بعض الانحراف، واشتغل عامل نظافة في إحدى الكليات العملية، وكان بالكلية أستاذ رياضيات نصف مشهور، سأل طلابه أن يحلوا معضلة معقدة كتبها لهم على السبورة، اختبارا نهائيا لعله يعثر من بينهم على عقل لامع مبتكر. ولم يستطع أي من طلابه أن يحلها، إلا عامل النظافة الذي تسلل خلسة إلى السبورة وكتب عليها الحل السحري.

بالمصادفة عرف الدكتور حكاية عامل النظافة وذهب إليه في بيته، فوجده مطلوبا على ذمة قضية اعتداء بالضرب حكم عليه فيها بالحبس ستة أشهر، فقدم طلبا إلى القاضي أن يرعاه ويعيده عضوا نافعا في المجتمع، ويعالجه نفسيا من العقد التي ترسبت في أعماقه منذ طفولته المعذبة!

وسأله القاضي: لماذا تريد أن تفعل ذلك وأنت لا تعرفه؟! أجاب الأستاذ: إنه عقل عبقري ومن الخسارة لأميركا أن يضيع في زحمة الحياة دون أن تستفيد منه.. مثل هؤلاء يا سيدي القاضي هم الذين فتحوا لأميركا أبواب قوتها وتقدمها ونظامها، وهم حلمها الدائم إلى المستقبل الأفضل! فاستجاب القاضي له.. وأخذه الأستاذ إلى طبيب نفسي تعذب مع الشاب العبقري العنيد الخائف من الحياة، حتى استرد نفسه خالية من العقد، وشق طريقه عالما في الرياضيات!

أستاذ حالم، وطبيب نفسي حالم، هما اللذان صنعا المعجزة، معجزة تحويل شاب معقد منحرف إلى عالم فذ في الرياضيات! إنه الحلم أن تتخرج على أيديهما "شخصيات" لامعة في مجتمعها.

وقد يكون هذا ما يحتاجه ليس المصريون فحسب، بل كل العرب، وربما كل المسلمين، فالحلم هو أول خطوة نحو التغيير، فالإصلاح ليس كالقضاء والقدر قادما على حصان أبيض ينتشل الناس من أوضاعهم إلى أوضاع أفضل، فمصائر البشر يصنعها البشر بأنفسهم حين يحولون أحلامهم إلى حقائق على أرض الواقع، بالعمل وبالمثابرة والجهد والابتكار والاتقان، وقد يلعب القدر دورا مساعدا أو معاندا. ولو ضربنا باليابان مثلا، سنجدها تمضي في الاتجاه المعاكس لسوء الحظ، فهي مجرد جزر بركانية محرومة من الثروات الطبيعية التقليدية، لكن شعبها لم يستسلم لظروفه وأفرد شراع الحلم وأبحر به إلى التقدم والتحديث.

والمسلمون لن يكسروا أطواق التخلف إلا بالحلم والعمل، ولا مانع أن يتألموا، فقد عرفت البشرية دوما نوعا من الألم الخلاق المفجر لطاقات الإنسان الكامنة، وليس الألم العاجز الذي ينشر الخوف ويعيق التغيير والتطور.. الحلم ليس وهما ولا هروبا من الواقع المر.

Email