ميثاق شرف أم عقد اجتماعي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما كنت أريد أن أكتب عن أوضاع العراق اليوم، ولكن التاريخ سيحاسبنا جميعاً، وستتساءل الأجيال القادمة: لماذا سكتت ضمائر الأحرار؟ كنت أتمنى على المسؤولين العراقيين التفكير بما سيقوله التاريخ عنهم..

إن مستقبلنا سيستنكر حكام أي عهد سياسي اقترفوا فيه أخطاء لا تغتفر في حق شعوبهم.. إن العراق أخطر منطقة في العالم منذ عشر سنوات خلت، فهل يبقى السكوت مطبقاً عن استكشاف عوامل الخطر الكامنة؟ هل سيبقى العراقيون يلازمهم صمت رهيب، وهم يشهدون أسوأ الأحوال بعد أن عانوا طويلاً من عهود خلت وحروب مرت وكوارث حلّت؟ إلى متى يتمسح البعض بعملية سياسية فشلت منذ ولادتها؟ هل سيبقى المجتمع العراقي يعاني من الانقسامات والقتل والتفجير والاضطهاد والتهجير والإفناء البطيء؟ إلى متى يستمر الاهتراء وسحق المجتمع من قبل سلطة فاشلة يأكلها الفساد؟ لماذا يقمعون من ينتقدهم وينصحهم؟ لماذا يشتمون ويشوهون سمعة من يخالفهم؟ لماذا يغلقون بعض الفضائيات الوطنية؟ لماذا لا يمثلون أمام مجلس النواب لمساءلتهم؟ لماذا الغطرسة مع مجتمع ثائر يطالب بحقوقه؟ لماذا وعودهم كاذبة وهم يتغاضون عن وزراء ونواب ومسؤولين متهمون بسرقات مفضوحة وصفقات بشعة؟ من كان وراء إشعال السعير الطائفي المقيت؟

كنا قد نادينا عقب الاحتلال بـ"فترة انتقالية" أسوة ببقية المجتمعات، كي تستقر الأوضاع وتثبّت قيم وطنية جديدة، وعدالة انتقالية لعشر سنوات، كي تلد مؤسسات، وينبثق دستور مدني يصلح للعراق وشعبه.. وتبدو المشكلة مرّكبة، ليست في نخبة سياسية حزبية لوحدها، لكنها أخذت تطوف عند شرائح مغلقة وهي مصفقة ومدافعة لأغراض مفضوحة!

قبل أن أقدم نصائح إلى من لا يستجيب للنصيحة، أقول إن من يحكم العراق عليه أن لا يفرق بين العراقيين، وأن يكون كبيراً وماهراً وثابتاً وصادقاً في معالجة الأزمات، باعتماده على أكفأ العراقيين مهما كان دينهم أو طائفتهم أو جهتهم أو قوميتهم.. فهل نجح قادة العراق الجدد في تأسيس عقد اجتماعي بين دولة مؤسسات ومجتمع متنوع؟ كيف يكون الحكم مستقل الإرادة وله حكمته في صنع القرارات في دولة فاشلة؟ كيف يكون ضالعاً في عملية سياسية مليئة بالأدران مذ ولدت في رحم محتل من هنا ومحتل من هناك؟ كيف لا تفشل أحزاب متخلفة وبعيدة عن الفكر السياسي الحديث؟ إلى متى يبقى أسير منطقته الخضراء، وكل العراقيين في مناطق حمراء تعاني من أعمال القتل والتهجير والتفجير والعبوات والمفخخات..؟ كيف يبتعد عن التفاهات والبلادة السياسية ليشكّل حراكاً وطنياً؟ كيف يكون صادقاً ومتواضعاً ومبتعداً عن الأكاذيب وخداع الناس بالتمويهات؟ كيف يتشدق بالوطنية من يعتمد على طيف واحد دون كل الأطياف؟ كيف يحترم كل أبناء بلده بمختلف ثقافاتهم وطقوسهم ومستوياتهم؟ كيف يتبع استراتيجية عراقية وطنية، بعيداً عن أية أجندة أجنبية دولية أو إقليمية؟

إن كل هذا وذاك يعيق تأسيس أي مشروع وطني عراقي يجمع الكلّ تحت سقف مبادئ مشتركة.. لماذا جاءوا بكل الجهلاء والأغبياء ليتولوا أخطر المؤسسات، في حين أبعدوا كل الأكفاء، وأقصوا كل الأذكياء، وحاربوا كل العقلاء؟ لماذا استعجلوا إنشاء دستور ومؤسسات فاشلة لتبدأ أغرب عملية سياسية قادت إلى نهايات مأساوية؟

إن التجانس الاجتماعي أهم ما يحتاجه كل العراقيين، وهذا يوفره مشروع وطني يؤسس على مبادئ حديثة، كتلك التي مارسها أتاتورك أو غاندي أو مانديلا أو مهاتير وغيرهم.. وكنا قد طالبنا بذلك منذ العام 2003 دون جدوى!

اليوم، يوقعون فيما بينهم "ميثاق شرف" لا يعرف من سيلتزم به، بدل أن يتمكنوا من إنجاز "عقد اجتماعي" حديث. لقد ثبت أنهم ما زالوا بعيدين عن فهم المصالح الوطنية، وأنهم عاجزون عن توفير الأمن الجمعي والقضاء على الإرهاب البشع.

إن العراق خارج قوس ميثاق شرفهم الذي بقي قادته من دونه عشر سنوات مضت، والعراقيون حتى اليوم يتمزّقون ويرحّلون ويهجّرون ويقتّلون ويفجّرون ويشرّدون.. وهم ينتقلون من سيئ إلى أسوأ.. عشرة أعوام والطائفية المقيتة تأكل العراقيين أكلاً، بعد أن جعلوها بديلاً عن النزعة الوطنية!

إنهم معزولون عن شعبهم تماماً، فمتى ذهبوا إلى قرية مختلطة، أو مدينة بعيدة، أو بلدة مسيحية، أو حارة شعبية، أو أزقة شيعية، أو عشيرة سنية، أو طيبوا خواطر كردية، أو زاروا أريافاً تركمانية.. الخ؟ سيكون ميثاق شرف لو شعروا بمعاناة العراقيين.. لو نزلوا إلى شوارع جماهير معتصمة، أو استمعوا إلى متظاهرين غاضبين، أو صلّوا مع جموع مصلين محتسبين، أو سعوا بإخلاص من أجل إيجاد حلول لمعاناة كل العراقيين.

ميثاق شرف لحكومة قاصرة لا تستطيع القبض على العابثين بأمن البلاد، أو تقضي على ميليشيات وعصائب وعصابات.. ميثاق شرف لتكتلات حزبية يتبادل نوابها في ما بينهم الشتائم والمسبات ويتراشقون بالأحذية!

من أين أتى هذا النوع من العراقيين؟ أية حكومة مزدوجة المعايير تبطن عكس ما تظهر حيناً، وتظهر عكس ما تبطن حيناً آخر؟ أية سياسة متناقضة ومزيفة تتبعها وهي لا تعترف بأخطائها؟ يتشدقون كل يوم ضد الطائفية وهي وراء كل انقسامات المجتمع وتشظياته؟ أي ميثاق شرف بين تكتلات حزبية قتلت روح الوطنية، بل وضربت كل قيم العراقيين وأخلاقياتهم؟ ميثاق شرف لأطياف تتخبط في أشلائها، وهي ليست - كما توصف - عاجزة عن التوافق، بل هي ضالعة في خلق الأزمات وبث الدعايات.

إن التغيير لا بد أن يأتي يوماً، ليكون المشروع الوطني بديلاً من أجل بناء عقد اجتماعي مدني بين الدولة والمجتمع.

Email