الإرهاب بلا دين

ت + ت - الحجم الطبيعي

متسوقون من كل الجنسيات يتجولون في أحد المجمعات التجارية الفخمة في مدينة نيروبي عاصمة كينيا، الدولة التي تقع شرق إفريقيا وتجاور الصومال، ولها أربعة آلاف جندي يحاولون إعادة الاستقرار إلى ربوع هذه الدولة، التي لم تنعم بالهدوء والراحة منذ أن أطيح برئيسها السابق سياد بري في العام 1991، أي قبل أكثر من عقدين.

المتسوقون لم يكونوا جنوداً كينيين بالطبع، اغتنموا فرصة إجازتهم كي يتبضعوا وينعموا بفترة استرخاء بعيداً عن جبهات القتال، بل كانوا نساءً وأطفالاً، شيباً وشباباً، من كل الجنسيات، وإن غلب عليهم أهل البلد الكينيون، ومن كل الأديان، وإن كانت الأكثرية من المسيحيين.

المكان إذن، ليس ثكنة عسكرية، ولا موقعاً لتجمع جنود الأعداء، وهو بالتأكيد ليس سوقاً يمد القوات الكينية بتموينها من الأغذية مما يحتاج إليه الجنود في الميدان. إنه مكان آمن، آخر ما يفكر فيه مرتادوه أن يكون موقعاً لهجوم عسكري يستخدم فيه السلاح وتتفجر فيه القنابل ويلعلع في أرجائه صوت الرصاص.

غير أن كل هذه الاعتبارات لم تدر في خلد وعقول وضمائر "حركة الشباب الصومالية" وهم يهاجمون هذا المكان الوديع، بمن فيه من النساء والأطفال والشيوخ، بل اعتبروا هؤلاء في مقام "القوات الكينية" الموجودة على أرض الصومال، والتي تجب مهاجمتها بكل الوسائل والقضاء عليها! وهم أيضاً رأوا في ذلك المبنى التجاري كما لو أنه "معسكر" مدجج بالسلاح والعتاد، وبالتالي فهو هدف مشروع لهم!

هكذا يفكر الإرهابيون، فهم لا تعنيهم أرواح البشر المسالمين، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في ما يجري من أمور الحرب والسياسة، والتي هم أبعد ما يكونون عنها، بل يصبح هؤلاء المسالمون طعماً سائغاً لمن يخلطون الأمور ويقومون بالتعميم، فيضعون العسكري والمدني في خانة واحدة.

ومن يقاتل ومن لا يقاتل في نفس الخانة، وهم أيضاً يساوون بين الأهداف المدنية والعسكرية وينظرون إليها بنفس المقياس. ولو لم ينظروا بهذه الرؤية الفاسدة والمنحرفة، لظلوا في بلادهم يقاتلون هؤلاء "الكينيين" على اعتبار أنهم غزاة، وبالتالي فهم كجنود ومعسكرات وثكنات أهداف مشروعة.

غير أن الحركات الإرهابية بشكل عام، مثل "حركة الشباب الصومالية" التي تتبنى فكر تنظيم القاعدة، لا يمكن أن تكون حركة جماهيرية فاعلة ومنتشرة، بل هي مجموعات صغيرة ومتقوقعة على ذاتها، وأغلب المنخرطين فيها من الشباب اليافعين قليلي الخبرة والتجربة، والذين يملكون زاداً فكرياً ضئيلاً.

ولو كانت الحركات الإرهابية حركات جماهيرية لما لجأت إلى العنف والإرهاب. فحركة الشباب الصومالية هذه لو كانت حركة شعبية ومنتشرة، لكانت القوات الكينية صيداً سهلاً لها على أرض الصومال الواسعة. هذا إذا سلمنا جدلاً بمنطقها القائل إن هذه قوات احتلال، وهي في حقيقة الأمر قوات لمساعدة السلطة الشرعية لاستعادة الاستقرار إلى ربوع هذا البلد المضطرب.

وإذا كان صغر حجم الحركات الإرهابية من حيث عدد المنتسبين لها وقلة زادهم الفكري وصغر سن المنتمين إليها، هي سمات تلك الحركات بشكل عام، فإن ثمة سمة أخرى مهمة لهذه الحركات، وهي أن أتباعها قد ينتمون إلى أي دين أو مذهب أو طائفة أو قومية أو عرق أو غيرها من السمات الفارقة بين البشر.

رأينا "منظمة الجيش الأحمر" الياباني و"منظمة بادر ماينهوف" الألمانية في سبعينيات القرن الماضي، ثم "نمور التاميل" في سريلانكا بدءاً من الثمانينات، وهذه الحركة الهندوسية بالمناسبة، هي التي ابتدعت "الهجمات الانتحارية" قبل أن يتبناها "الجهاديون الإسلاميون" ويطلقون عليها زوراً اسم "العمليات الاستشهادية".

ورغم صغر حجم الجماعات الإرهابية وقلة أنصارها، فإنها قادرة على إحداث إرباك في المشهد العالمي، وخاصة في الدول التي تعيش حالة من الاضطراب والتوتر، كالعراق واليمن والصومال وأفغانستان وسيناء هذه الأيام، وهي تعطل عملية الاستقرار التي هي شرط ضروري للتنمية.

ولا يمكن التخلص من الإرهاب بوسائل القمع وحدها، بل بالحرب الفكرية مقرونة بإشاعة العدالة الاجتماعية.

 

Email