المجازر الكيماوية في سوريا

ت + ت - الحجم الطبيعي

مضى على الحرب الأهلية في سوريا ثلاثون شهراً. ارتكب المتصارعون فيها الفظائع والجرائم ضد الوطن والشعب والإنسانية، وبمختلف الأشكال والألوان والأحجام. تراوحت هذه بين قتل المدنيين العزّل بدم بارد، وقصف الأحياء السكنية، وانتهاك الكرامات والأعراض، وتدمير المرافق الخدمية والممتلكات.

اختلفت الحوافز والدوافع والحجج والمبررات في جرائم انتهاك حقوق الإنسان. زعمت الفئات المتصارعة حق الدفاع عن النفس، والانتقام للضحايا، أو الإمساك بزمام المبادرة من الخصم بتنفيذ أعمال ردع وقائية وتحذيرية.

تصب هذه جميعاً في محاولة كل طرف كسب الحرب، بكافة الطرق والوسائل والأدوات الممكنة. حديثاً وقعت مجازر من نوع جديد في الحرب، تمثلت بالقصف بالمواد الكيماوية؛ بالذات استعمال غاز الأعصاب "السارين" الفتاك. يقتل غاز السارين ضحاياه في الساعة الأولى على الأكثر من استعماله وبدء انتشاره في الأجواء. سرعان ما يتحلل وتختفي آثاره بعد ذلك.

ليس له طعم ولا رائحة ولا لون مميز. ذلك ما يجعله مناسباً للاستعمال أكثر من غيره للفئات المتحاربة؛ يشبه حاله حال السلاح مكتوم الصوت. يظن المجرم أنه يستطيع أن يفلت من الكشف عنه، وفيما بعد الملاحقة القانونية والعقاب المستحَق.

نسي أو تناسى المجرم أن وسائل التتبّع والكشف والتحقّق الحديثة، تجعل أمر الإفلات من الجريمة غير ممكن. من المؤكد أن غاز السارين قد استُعمل في الحرب. اتهمت الفئات المتناحرة بعضها بارتكاب المجازر الكيماوية، التي وصل ضحاياها العشرة آلاف إصابةً في فترة زمنية قصيرة؛ ساعةً أو بعض ساعة.

ثمة لم يكن هنالك إجماع على اتهام طرف دون الآخر؛ فبينما ناصر الأميركيون فكرة استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي، اتهم الروس وحلفاؤهم المعارضة المسلحة باستعمال ذات السلاح. هنالك احتمال ثالث وإن كان ضعيفا، يشير إلى أطراف خفية مستفيدة من تفاقم الصراع، ووصوله إلى درجة استخدام السلاح الكيماوي في الحرب.

بالذات إسرائيل تريد نزع سلاح الردع غير التقليدي الوحيد المتوفر لدى سوريا ضد الترسانة الإسرائيلية، المتفوقة تقليدياً نوعياً وغير تقليدي بامتلاكها لأسلحة نووية.

لكن معظم الدلائل والحيثيات والمنطق والوقائع على الأرض، المقدَّمة إعلامياً على الأقل، تشير إلى احتمال أكبر لتورط النظام السوري في ارتكاب المجازر الكيميائية. اتجهت الأنظار فوراً إلى التوجه للنظام للتخلص من ترسانته الكيماوية أو مواجهة ضربة عسكرية، وربما حرباً شاملةً عليه.

لا يتمكن النظام من مواجهة هذا التهديد؛ سيما أن حلفاءه ليسوا من القدرة السياسية والكفاءة في التقنية العسكرية بمكان للوقوف معه. بات عليه الإذعان وحتى الاستسلام للمطالب الدولية الغربية بتدمير أسلحته الكيماوية.

يبدو الأمر وكأنه سيناريو معد مسبقاً لتخليص سوريا والمنطقة من سلاح غير تقليدي خطير. ستستفيد الفئات المتصارعة والمنطقة من هذه الخطوة، حيث السلاح الكيماوي شديد الخطر على الجميع؛ أعداء كانوا أم أصدقاء.

يتزامن المطلب الأميركي الاوروبي بالتخلص من أسلحة سوريا الكيماوية، بإحباط قرار في الوكالة الذرية ينتقد النووي الإسرائيلي، تقدمت به دول عربية تعبر عن قلقها بشأن القدرات النووية لإسرائيل.

إلا أن الدول العربية فشلت في تمرير هذا القرار، حيث أحبطت أغلبية ضئيلة من دول معظمها غربية، الخطة في اجتماع للوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا. وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية تأجيلها له بسبب عدم وجود اتفاق على أجندتها، وبسبب الوضع الراهن في الشرق الأوسط.

السؤال الذي يطرح نفسه في المنطقة هو: ماذا بعد تحرير المنطقة من أسلحة القتل الشامل الكيماوية؟! هل هنالك خطوات إضافية تهدف إلى تخليص المنطقة من حالة الفوضى التي دخلت فيها بسبب حركة التغيير التي تطرق أبواب البلدان والشعوب العربية؟! تتركها في حالة من الفوضى الشاملة والاقتصاد المنهَك شبه المدمَّر.

ما الذي يخططه العالم القوي لسوريا التي تغرق في بحور من الفوضى والجهل والتخلف في مختلف الاتجاهات؟! ذلك مما يُغرق المنطقة في حالة بؤس أشد عمقاً واستفحالاً من ذي قبل.

 المشكلة بالدرجة الأولى والثانية إلى ما قبل الأخيرة، ليست في السلاح الكيماوي. المشكلة تتلخص في أن من وراء الربيع العربي هنالك مخطط لاستمرار إدخال المنطقة العربية في نفق مظلم، قد لا تخرج منه إلى ما بعد أمد استراتيجي بعيد.

 

Email