الحرب على الإسلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

نسوة منتقبات، بعضهن يضعن رموزا مختلفة على رؤوسهن، وبعضهن يلبسن "جاكيتات" مموهة كالتي يلبسها رجال الصاعقة والعمليات الخاصة في الجيوش الحديثة، وفي أيديهن ميكروفون يدور بينهن وسط ميدان في مدينة المنيا، جنوب القاهرة بمئتين وستين كيلومترا، وكل منهن تتوعد المؤسسة العسكرية المصرية بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويذكرن الفريق أول عبد الفتاح السيسي القائد العام للقوات المصرية وزير الدفاع بالاسم ويهددنه علنا، وتجرأت إحداهن منذرة: "لن يرتاح لكم بال ولن يغفل لكم جفن، نحن المجاهدات في سبيل الله، المناضلات ضد الحرب على الإسلام، المدافعات عن الشرعية، والواحدة منا بألف رجل"! وختمن المؤتمر التهديدي في نهاية الأسبوع الماضي: الشهادة.. الشهادة!

مشهد مثير وعجيب للغاية، يفجر مليون سؤال في الأدمغة التي تشغل نفسها بالتفكير العلمي المنظم، ولا يفجر سؤالا واحدا في الأدمغة التي اعتادت على النقل والحفظ والتلقين: ماذا تريد هؤلاء النسوة اللائي أسمين أنفسهن "الأخوات الأنصاريات"؟ هل ثمة حرب حقيقة على الإسلام؟ هل هن حقاً مجاهدات في سبيل الله؟ وفي أي ميدان يجاهدن؟!

أتصور أن أي قراءة نقدية صحيحة لهذا الخطاب قد تضع أيدينا على أسباب الحالة التي عليها أغلب دول العالم الإسلامي: الأكثر فقرا، الأقل تعليما، الأضعف صحة، الأشد تخلفا، وشعوبها تؤمن بدين أول كلمة نزلت فيه على صاحب الرسالة هي "اقرأ" بكل مدلولاتها المعرفية والإدراكية، وتكررت في آيات القرآن كلمات شديدة الإحياء عشرات المرات مثل "يعقلون، يتدبرون، يفكرون.. الخ"، وهي أفعال عظيمة الشأن في تحديد مصائر الإنسان والأمم! والسؤال: إذا كانت ثمة حرب على الإسلام فممن؟ الإجابة عن هذا السؤال تستلزم سؤالا استهلاليا، قد يبدو خارج السياق لكنه "كلمة السر" إلى حل اللغز: هل أجرت هؤلاء النسوة مقارنة بسيطة بين حال اليهود في العالم وتعدادهم لا يزيد على 15 مليون نسمة، وحال المسلمين وعددهم يتجاوز المليار وخمسمئة مليون!

المقارنة موجعة جالبة للعار.. اليهود لهم ألمع الأسماء العلمية والأدبية والفكرية والسياسية والاقتصادية والطبية والفلسفية، في القرنين التاسع عشر والعشرين: ألبيرت آينشتاين، سيغموند فرويد، كارل ماركس، ميلتون فريدمان (جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976)، آلان غرينسبان الاقتصادي العظيم، جون كي رئيس وزراء سنغافورة، بنجامين روبن مخترع الحقنة الطبية، يوناس سالك مخترع لقاح شلل الأطفال، جيرترود إليون مخترع دواء سرطان الدم، باروخ بلومبيرغ مكتشف التهاب الكبد الوبائي وعلاجه، ليو زيلاند مخترع المفاعل النووي، بيتر شولتز مخترع الألياف الضوئية، تشارلز جينسبيرغ مخترع مسجل الفيديو، سيرجي براين صانع "غوغل" أداة البحث على الإنترنت، وغيرهم المئات في الإعلام والإبداع والفنون، وهؤلاء حصلوا على 180 جائزة نوبل في مئة وخمسة أعوام فقط! فماذا عن المسلمين؟! يا مولاي كما خلقتني؛ في الفكر والفن والسياسة والاقتصاد والعلوم والطب في العصور الحديثة!

بالطبع الإجابة مخزية للغاية، وتدفع أي مسلم إلى التفكير في سؤال مهم: هل تفوق اليهود مجرد مصادفة أو مؤامرة أو غش أو وساطة؟!

من السهل أن نجيب بـ"نعم" ويرتاح بالنا ونغط في نوم التخلف، وقد يقول بعضنا إن هؤلاء اليهود المتفوقين هم نتاج حضارة الغرب المتقدمة، يرضعون لبنها وثقافتها وتفكيرها العلمي المنظم، وتفوقهم لا يرجع إلى كونهم "يهودا" فقط. وهذا كلام صحيح وسليم، لكنه يفتح الباب إلى سؤال مواز: ولماذا لم ينجح المهاجرون الآخرون إلى الغرب كالبوذيين والهندوس والمسلمين بنفس القدر الذي نجح به اليهود؟!

قد يكون الفارق في أزمنة الهجرات، فاليهود من أوائل المهاجرين إلى العالم الجديد هروبا من الاضطهاد في أوروبا، فزرعوا أنفسهم في تربة الولايات المتحدة زراعة صحيحة لزمن طويل، بينما الآخرون لم ينتظموا في هجرات جماعية إلا في المئة سنة الأخيرة، فلم يتمكنوا من صناعة "تراكم" من الثروة والمعارف والعلاقات بالمجتمع الأميركي مثل اليهود!

قطعا لا ننكر أن النظم السياسية تلعب أدوارا خطيرة في حياة شعوبها، وقد تصعد بها إلى القمة أو تخسف بها الأرض، فالحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص والمساواة وتوزيع عوائد التنمية، هي عناصر بالغة التأثير في تصرفات الناس الخاصة والعامة، لكن لو توقف المسلمون عند هذا السبب فقط وحمّلوه كل الخطايا والأخطاء، فقد يفسدون على أنفسهم أي فرصة للخروج من النفق!

والسؤال الصحيح: هل الطريقة التي يفكر بها أغلب المسلمين ومنهج حياتهم والموضوعات التي تشغلهم يمكن أن تقودهم إلى التقدم؟ هل ثمة علاقة بين الحقائق المرة التي ترصد تخلفهم ومؤتمر الأنصاريات في المنيا أو عمليات القتل المتبادل في العراق أو الحرب الأهلية في سوريا وأفغانستان أو اغتيال المعارضين في تونس وباكستان؟!

قطعا ثمة علاقة، وهي عطب العقل الجمعي وانشغاله بأشياء لا تمت لصناعة الحضارة والتقدم بصلة، وبهروبه إلى الماضي محاولا استرجاع عصر ذهبي يستحيل استنساخه! وبالطبع لا يوجد في العالم المتقدم هذا النوع من الجدل والانشغالات، التي نحن منغمسون فيها حتى الموت!

 

Email