بعد نحو ثلاثة أشهر من ثورة 30 يونيو التي صححت مسار الثورة المصرية الأحدث في تاريخها، وبعد إسقاط فصيل الإخوان المسلمين في مصر، يبقى هناك سؤال مهم في الحال والاستقبال: هل تعرض تيار الإسلام السياسي لضربة موجعة في مصر فقط، أم أن ما جرى كفيل بإبعاد تأثيراته وتجاذباته في العالمين العربي والإسلامي لفترة طويلة من الزمن إن لم يكن إقصاءه نهائيا عن المشهد السياسي في القرن الحادي والعشرين؟

يعن لنا أن نتساءل بداية عن جوهر حركات الإسلام السياسي ومقتضيات ظهورها، والدوافع الكامنة وراءها.. ماذا عن ذلك؟ من بين قراءات وتحليلات عديدة كان أفضل ما اطلع عليه المرء، بضع سطور للمفكر الكبير الراحل الدكتور جمال حمدان، إذ اعتبر أن "الحركات الإسلامية المتطرفة بشكل عام، هي وباء دوري يصيب العالم الإسلامي في فترات الضعف السياسي أمام العدو الخارجي، وهي نوع من التشنج الطبيعي بسبب عجز الجسم عن المقاومة". أما الإسلام السياسي فهو ظاهرة تجسد العجز السياسي في وجه الخطر الاستعماري، وهو رجعية سياسية وجهل مدني وجاهلية دينية.

هل أثبتت تجربة الإخوان ومحمد مرسي في مصر ذلك؟ المؤكد أن تلك الجماعات قد أظهرت حقيقة واضحة لتيار الإسلام السياسي، تتمثل في الاختباء وراء الشعارات الدينية في حين تسعى إلى تحقيق هدفين؛ الأول هو خدمة الأجندات الغربية لا سيما الأميركية، وفي هذا ازدواج قاتل مع أصل منشئها.

والثاني هو إظهار وجهها الديكتاتوري عبر ما أطلق عليه فكر التمكين، أي تسكين جميع مناصب الدولة العليا بداية بالتابعين لهم ومن لف لفهم. وفي كل الأحوال يمكن القطع بأن إخفاق مشروع حكومة الإخوان في مصر، أدى إلى خسارة الإسلام السياسي معركة حاسمة، وبات شعار "الإسلام هو الحل" غير ذي مصداقية بعد الآن.

لماذا تعارض حكم مرسي والإخوان؟ كان هذا السؤال قد وجهه صاحب هذه السطور إلى طائفة متباينة من المصريين في ميدان التحرير عشية ثورة 30 يونيو، ولم يخرج أحد عن الإجماع على جواب واحد تمثل في القول: "نعم نحن مسلمون لكن لا يمكن إدارة دولة تقوم على الدين، فهذا يسبب ضررا للإسلام".

ولقائل أن يقول إن فشل الإسلام السياسي في مصر أو تونس يعود في غالبه إلى فكرة الدولة العميقة الكامنة في هيكل الدولة التنظيمي، غير أن هذا قول مردود عليه، إذ لا يمكن لهم التنصل من أخطائهم القاتلة التي ارتكبوها في المرحلة الانتقالية، لا سيما وأنهم قبلوا تحمل المسؤولية على غير استعداد لها أو كفاءة للقيام بها، عطفا على إقصاء الآخر وعزله، وادعائهم العصمة والصواب المطلقين.

الإشكالية الحقيقية لتيار الإسلام السياسي هي أن الذين يدعون العصمة ويقولون بالصواب المطلق ويرفضون فتح باب الاجتهاد، يظنون أنفسهم الشمعة الوحيدة، وهم جزء من الرياح التي تطفئ كل الشموع.

إخفاق تجربة الإخوان في مصر عرى ولا شك إيديولوجية الإسلاميين السياسية والاقتصادية، فقد ظهرت وكأنها إيديولوجية مؤيدة للسياسات الاقتصادية الرأسمالية الغربية، التي تخدم البنوك الضخمة والمؤسسات المالية التي يهيمن عليها صندوق النقد والبنك الدوليان، ورافضة لأية إصلاحات جذرية للاقتصاديات الوطنية، ما عزز فكر سياسات الخصخصة النيوليبرالية، وانعكس كارثيا على غالبية جموع الشعب المصري الكادح، وباتت الحقيقة واضحة؛ فإخوان اليوم كالإمبراطورية العثمانية السابقة، تسخر شعارات الدفاع عن الإسلام من أجل الوصول إلى السلطة وتحقيق الثروة.

 يطول الحديث أيضا في هذا المقام عن تلاعب واشنطن بحركات الإسلام السياسي حول العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، غير أنه في كل الأحوال يتحتم القول إن ثورة 30 يونيو وما تلاها، يعد مؤشرا إلى هزيمة كبرى لاستراتيجية واشنطن القائمة على استخدام الإسلام السياسي، بهدف نشر الفوضى من الصين مرورا بروسيا ووصولا إلى الشرق الأوسط الغني بالطاقة.

هل من علامة أولية تنبئ بتصدع جبهة الإسلام السياسي؟ فليولي القارئ وجهه شطر تركيا ليرى الموجات الصادمة القوية التي باتت تزعج أردوغان وحزبه، خاصة بعد أن عمل على قمع الاحتجاجات الجماهيرية ولا يزال، أما تونس فالمتظاهرون في الشوارع يضعون التجربة المصرية نصب أعينهم.

يبقى القول قبل الانصراف، إن ثورات الربيع العربي، مهما اتفقنا أو اختلفنا مع المسمى، قدمت لتيار الإسلام السياسي فرصة ذهبية، لكن القائمين على هذه الجماعات فشلوا في تعظيم الاستفادة منها، وأدخلوا أنفسهم في مأزق تاريخي، إذ كان عليهم أن يثبتوا لجموع الشعب أن الحكم والسلطة ليسا من أهدافهم، وإنما إقامة حياة سياسية وحزبية سليمة، واحترام الديمقراطية التعددية وحقوق المواطنة، واحترام الأقليات ونشر العدالة الاجتماعية.

لكن على العكس من ذلك، تجلت "الذات الإخوانية" المفرطة في عبادة النفس والجماعة، ما يجعل تصديق تجربتها مرة أخرى في دولة ما عملية شبه مستحيلة، لتنضم بذلك إلى فشل نموذج "الإسلام" التكفيري بشقيه الجهادي والقاعدي. إنه انسداد تاريخي ولا شك للإسلام السياسي، قد يحمل مفاجآت الفناء المستقبل عوضا عن البقاء المستدام.