النتائج المرة للمبادرة الروسية الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكدت المبادرة الروسية والمواقف الأميركية الروسية اللاحقة، أننا في عصر آخر فعلاً لا علاقة له بعصر الإيديولوجيا والثوابت العقائدية والنظرية. فقد تراجع المنطوق الاستراتيجي لدى عالم اليوم، وهيمنت السياسة "البراغماتية"، كما تأكد عدد كبير من الآراء والمواقف ووجهات النظر المختلف عليها تجاه الأزمة السورية، داخل المجتمع السوري وخارجه.

 أيام هيمنة الإيديولوجيا على دول العالم وثوابتها الاستراتيجية طوال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت مواقف الدول تتأثر بالدرجة الأولى بالثوابت المتعلقة بالأفكار النظرية والاستراتيجية، وتأتي بعدها المصالح المحلية. ولم يكن هذا وقفاً على الدول الاشتراكية، وإنما كان أساسا أيضاً في سياسات الدول الرأسمالية. أما الآن.

وبعد انتهاء الحرب الباردة وبدء عصر العولمة، وطغيان "البراغماتية" والمصالح الذاتية للدول، وتراجع الأيديولوجيا ونظرياتها، فقد أصبحت المواقف السياسية للدول أسيرة مصالحها، وتأتي بعدها بمسافة بعيدة أحياناً،.

القضايا الأيديولوجية والأخلاقية وذات الأهمية للإنسان وحقوق الإنسان وغيرها. وقد بدا ذلك جلياً في مواقف الدول من الأزمة السورية والصراع بين المعارضة والسلطة، واستخدام السلطة أقسى ممارسات العنف والتدمير والتهجير والتشريد والقتل تجاه شعبها، دون أن يتحرك أحد.

فبعد أن أعلنت الإدارة ألأميركية أنها ستوجه ضربة عسكرية إلى سوريا، سرعان ما تراجعت عندما قبلت السلطة السورية تسليم الأسلحة الكيماوية وتوقيع اتفاقية منع انتشار السلاح الكيماوي، فهدأت طبول الحرب وبح صوتها، ونسي الجميع أن الأزمة السورية هي المشكلة، وليست الأسلحة الكيماوية ولا غيرها، واعتبرت الدول النافذة هدف التخلص من الأسلحة الكيماوية هدفاً عظيماً.

بينما هو في الواقع ضرر فادح للشعب السوري والدولة السورية التي ما زالت في حالة حرب مع إسرائيل النووية. وكأن الشعب السوري أطلق ثورته ليزيح عبء الأسلحة الكيماوية عن كاهل إسرائيل، وليس للوصول إلى نظام حكم ديمقراطي تعددي تداولي.

ودل ذلك على أن الغرب لا يهتم بمأساة الشعب السوري وإنما بأمن إسرائيل واستقرارها، فطبقت الإدارة الأميركية المفاهيم السياسية المعاصرة، مفاهيم "البراغماتية" على حساب بؤس الآخرين ومآسيهم، وهذا ما يفسر التردد الأميركي الأوروبي تجاه حل الأزمة السورية، وعدم الاستجابة لصرخات الشعب السوري. لقد أكدت المبادرة الروسية.

والموقفان الأميركي والأوروبي منها أيضاً، أن أية أزمة لأي شعب لا يمكن أن تجد حلاً جدياً وشاملاً خارج الحدود، لأن الشعب هو الوحيد الكفيل بحلها، مع الاعتراف والترحيب بالعون الخارجي. واستطراداً تأكد عدم صحة مواقف أولئك السوريين الذين انتظروا أن تحل الدول الخارجية أزمتهم.

ستكون لهذه المبادرة، سواء نجحت أم فشلت، نتائج هامة على الشعب السوري، منها أنه لن يكون بعد الآن شديد الأمل بالدول الخارجية لتحل مشكلته، وبات يعتقد أن هذه الدول تحاول حل مشكلتها هي وتأمين مصالحها، من خلال قربها أو بعدها عن الأزمة السورية، فاستراتيجية الدول لم تعد كما كانت، فقد أصبحت أقرب إلى سياسة السوق و"الصفقات" والسياسة "الاستهلاكية" ذات المردود السريع.

وعلى ذلك فربما يعاد بعض المصداقية لمواقف المعارضة السورية الداخلية وآرائها السياسية، التي رفضت منذ البدء تسليم القضية السورية للدول الأخرى، كما رفضت العنف لأنها كانت تتوقع أن النظام سيستخدمه بوحشية.

أما شعار المعارضة الداخلية الثالث فكان ضد الطائفية، ليقينها أن النظام سيلجأ للشعارات الطائفية القذرة وممارساتها الغرائزية العنفية المتوحشة، ليبرر ارتكاباته وليقسم الشعب السوري على أسس طائفية، بأمل أن يربح تأييد طوائف صغيرة بعد أن يخيفها من الأخطار المحتملة.

ونتيجة لمواقفها هذه، تحملت المعارضة الداخلية النقد الجارح الذي وصل إلى اتهامها بالعمالة للنظام السياسي القائم والتخاذل، وغيرها من التهم. سيكون للمبادرة الروسية والقبول الغربي بها، تأثيران مباشران على المعارضة السورية وعلى السلطة السورية:

فبالنسبة للمعارضة، ربما ينحاز الرأي العام للمسلحة منها ويدفعها للتوسع في التسلح واستخدام السلاح، وقد تربح هذه المعارضة جماهير عديدة ومصداقية أكثر من قبل، لأن شرائح متنامية من الشعب السوري ستجدد إيمانها بأن الحل يرتبط بالمعارضة المسلحة التي ستربح مزيداً من الثقة والدعم.

وبالتالي فمن المحتمل أن تميل كفة المعارضة المسلحة أو نهج العمل المسلح على حساب الحلول السياسية، خاصة وأن المتطرفين وبعض الدول الخارجية تنفخ في هذه النار التي خمدت منذ عدة شهور. ولذلك ربما حل المسلحون محل السياسيين في التسويات القادمة. أما بالنسبة للسلطة السياسية فقد تشعر بأمان أكثر، وتتعزز قناعتها بأن المواقف الدولية ضدها لن تصل إلى نهاياتها.

وبالتالي فلن تضع في حسبانها أي احتمال عقاب أو ضربة عسكرية خارجية، وستزيد صلفها بسبب ذلك، وتوجه مزيداً من العنف والعسف للشعب السوري وللمعارضة. أما الإدارة الأميركية فينطبق عليها قول جرير: "زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً * أبشر بطول سلامة يا مربع"!

 

Email