من المهم في هذه اللحظات التاريخية التي تعيشها مصر، أن يبحر المرء في عقل وقلب إسرائيل ليعرف كيف ترى الصورة الآنية، وما هي قراءتها المستقبلية للأحداث في هذا البلد الذي يسبب لها رعباً منذ زمن "أشعياء بن أموص" نبي بني إسرائيل، وصولاً إلى فارس المحروسة الجديد "عبدالفتاح السيسي".
وقد يصعب علينا في الحال الوصول إلى التقديرات الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية لغياب الرئيس السابق محمد مرسي، ورحيل الإخوان المسلمين عن سدة الحكم في مصر، لكن من خلال رؤية تحليلية عميقة لما ينشر ويذاع هناك، يستطيع المرء بلورة توجه ما لجهة رحيل الرجل الذي وصف رئيس دولة إسرائيل سفاح مجزرة قانا شيمون بيريز بأنه "صديقي العزيز".
يتحتم بداية التساؤل؛ كيف رأت إسرائيل حكم محمد مرسي لمصر طوال العام المنصرم؟
تحت عنوان "إخفاقات مرسي بينة للعيان"، صدرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية بافتتاحيتها صباح 2/7/2013 تشير إلى أن "إخفاقات مرسي لا تحتاج إلى برهان، فمصر غارقة في أزمة اقتصادية عسيرة وصندوقها الذي اجتذب المليارات من أموال المساعدات فرغ بذات السرعة التي امتلأ بها.
والدستور الذي هرع مرسي إلى إقراره في استفتاء شعبي أشعل لهيب النقد، والقوانين التي نجح في سنها في مجلس الشورى في غياب برلمان فاعل، فاقمت الغضب في ضوء ما بدا "أخونة" لمصر، هذا عطفاً على العلاقات المشوشة مع الجيش، واستهداف الجهاز القضائي كهدف للاحتلال، وسلسلة من التعليمات غير المناسبة"...
غير أن المثير أن نقرأ رؤى وتحليلات دولية تؤكد أن إسرائيل قد تفتقد مرسي.. ما معنى ذلك الكلام؟
لقد خيل للكثيرين أن القاهرة في فبراير 2011 تحولت إلى طهران ثانية، وقد كانت تلك الفرضية مفيدة لإسرائيل على المدى البعيد، من حيث إظهار القاهرة بأنها بؤرة جاذبة للإرهاب، لا سيما إذا وثقت تعاونها مع حركة المقاومة الإسلامية حماس في غزة.
غير أن الإسرائيليين اكتشفوا في وقت لاحق أن مرسي جيد لإسرائيل، فهو على الصعيد الداخلي يعمق انشقاق روح مصر في داخلها، وعلى الصعيد الخارجي يعطي أسوأ انطباع عن رئاسة مصر، ثم إنه رغم تهديده بتعديل معاهدة السلام، إلا أنه احترمها تحت ضغط الولايات المتحدة، ولما رفض أن يكون له أي تعامل مع إسرائيل، نقل صلاحياته في مجال الأمن إلى المؤسسة العسكرية المصرية.
تشعر إسرائيل بأنها تفتقد محمد مرسي، لأنه لعب دور الأخ الأكبر لا على غرار ما جاء في رواية جورج أورويل 1984، بل لأنه لعب دور "الكابح" لجماح حماس، حتى أن فترة حكمه كانت الأكثر هدوءاً في قطاع غزة من أي وقت مضى.
وبالأرقام يحدثنا "بيير كلوخيند لير" من وكالة انتر بريس سيرفس، ففي الأشهر الستة الأولى بعد عملية عمود الدفاع (نوفمبر 2012)، تم إطلاق 24 صاروخاً فقط على جنوب إسرائيل، في تناقض حاد مع 171 صاروخاً أسقطت على إسرائيل خلال فترة مماثلة بعد عملية الرصاص المصبوب (ديسمبر 2008/ يناير 2009).
ولم تكن إدارة مرسي فقط وراء التوسط لوقف إطلاق النار خلال الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة، بل كانت مسؤولة أيضاً عن رصد تنفيذها.
غياب مرسي عن الساحة السياسية المصرية والعربية، ربما سبب دعماً غير مباشر لم تكن إسرائيل تريده للأردن وللملك عبدالله من جهة، وللسلطة الوطنية الفلسطينية من جهة ثانية. فقد أثبتت تجربة "الإخوان" في مصر فشلها، وهو فشل ينسحب على إخوان الأردن من جهة، وعلى حماس من جهة ثانية، ويعزز من أركان السلطة الفلسطينية بشكل خاص، والتي تسلك السبل السلمية للحصول على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، الأمر الذي يزعج إسرائيل.
أهم الأشياء التي فقدتها إسرائيل بالفعل من غياب مرسي، ويهددها أدبياً في الحال ومادياً في الاستقبال، هو عودة النسيج المصري الذي كاد أن يتفكك بعد آلاف السنين من التماسك والتلاحم.
واليوم يتندر المصريون بالقول إن الإيجابية الوحيدة التي أفرزها حكم مرسي، هي جعله "الجيش والشرطة والشعب" يداً واحدة. وليس أشق على إسرائيل من أن ترى الجبهة الداخلية المصرية عصية على التفتيت، مقاومة للانقسام، في طريقها للوئام، مهما بدت الصورة أو أريد لها أن تبدو من البعض غير ذلك.
بل أبعد من ذلك، فإن ثورة 30 يونيو التي عزلت مرسي، يمكن أن تكون هناك استحقاقات سيئة للغاية على إسرائيل، ذلك أنها ربما تدفع من جديد الآلاف من الإسرائيليين الغاضبين من سياسات بلادهم العنصرية، للخروج من جديد إلى الميادين، كما فعلوا منذ نحو عامين، لا سيما وأنه إذا كان المحتجون المرة الماضية من طبقة البرجوازيين، فإن فقراء الدولة سيجدون أن كل ما تبقى لهم هو فقط الوقوف في الميدان إلى أن تنتهي القصة.