السوريون بين خيارين

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعلها تجربة صعبة تلك التي يخوضها السوريون ربما تصل إلى درجة المحنة، فهم أمام خيارين صعبين، يتداخل في اختيار أي منهما مائة عامل وعامل، ذلك أنه مطلوب منهم أن يختاروا بين نظامهم السياسي القائم وبين التدخل العسكري الأميركي، ومن المتعذر إن لم يكن من المستحيل الوقوف على الحياد بين هذين الخيارين.

يعاني السوريون منذ أكثر من عامين ونصف من ممارسات النظام السياسي الشمولي والسلطة الأمنية القمعية، وقد حلت بهم خلال هذه الفترة مصائب لا حصر لها، فقتل النظام منهم أكثر من مئة وعشرين ألفاً حسب المنظمات الدولية المختصة وهيئات الأمم المتحدة، وتجاوز عدد المعتقلين مئتي ألف، والجرحى مئات الألوف، وتهدم أو أحرق أو سرق أكثر من مليون مسكن.

وتم تهجير مليونين إلى خارج سوريا وستة ملايين في داخلها (حسب بيانات الأمم المتحدة أيضاً).. وتضاعفت البطالة ثلاث مرات، وتضخمت الليرة السورية بنسبة 80%، وزادت الأسعار حتى أربعة أضعاف، ودُمر معظم المعامل والمنشآت الزراعية والصناعية أو نقلت إلى خارج البلاد.

ونشأت عن هذا الحال مشاكل وعادات وتقاليد وأنماط حياة ومنظومات أخلاقية عديدة وجديدة ولا تسر أحداً، وضاقت الدول المجاورة ذرعاً بمئات آلاف السوريين اللاجئين، وأهين الشعب السوري داخلياً وخارجياً.

و»من ترك داره قلّ مقداره» كما يقول المثل. وأمام هذه الكوارث صار من المفهوم، بالنسبة لهم، أن يرحب بعضهم بأي طرف يساعدهم على الخلاص من نظامهم السياسي، للوصول إلى نظام ديمقراطي تعددي تداولي وعقد اجتماعي جديد يهيئ لهم العيش في ظل الحرية والديمقراطية.

وأصبحت الأولوية عندهم هي الخلاص من الكارثة التي وصلوا إليها، خاصة وأن حياتهم وحياة أطفالهم مهددة إما بالقتل أو بالجوع والمرض، بعد أن خسروا «تحويشة العمر» خلال عامين ونصف. ورغم المأساة، هناك شرائح من الشعب السوري ترفض رفضاً مطلقاً تأييد الضربة الأميركية، رغم أن رأي هؤلاء في ما يجري وفي نظامهم السياسي لا يختلف كثيراً عن رأي الفئات الأولى.

ويرى قطاع واسع منهم أن مفهوم التدخل الخارجي تغير مع قدوم العولمة والنظام العالمي الجديد، وحل العمل السياسي محل المبدأ الأيديولوجي، وتبنت البشرية مفاهيم جديدة للوطن والوطنية والقومية والعدالة وغيرها من معايير الدولة الحديثة.

لهذا وذاك، تجد الحوار واسعاً ومنتشراً في كل أنحاء سوريا، بين هذا الطرف وذاك، وكل يحاول تأكيد أولوياته، ومع ذلك يشترك الطرفان في أمر واحد هو عدم القلق.

لقد مرت شعوب الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية بتجربة مماثلة، وكان خيارهم صعباً بين سلطة ستالين القمعية التي لا ترحم، ومعتقلاته ومجازره وحفلات الإعدام التي عمت جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وبين السكوت على العدوان النازي الذي كان يهدف لاحتلال الاتحاد السوفييتي والسيطرة عليه بعد أن احتل أوروبا بمجملها. كما مر الإيطاليون بالمحنة نفسها، وكان مطلوباً منهم الاختيار بين فاشية نظامهم السياسي والخنوع للنازية، وبين التحرر من كليهما وإقامة الديمقراطية.

نسي السوريون أو تناسوا أسباب أزمتهم، وأسباب ثورتهم كما يبدو، لأنهم يلهثون ليل نهار لتدبير أمور حياتهم اليومية وحياة أطفالهم ولا يتسنى لهم ذلك، فكيف يتدبر أمره من فقد ممتلكاته أو فصل من عمله، ولا يستطيع تأمين الحد الأدنى من الغذاء والمسكن والتعليم لأسرته؟

ولهذا زحفت عليه قيم وعلاقات اجتماعية وأخلاقية لم يشهدها من قبل، ويندى جبينه لممارستها، فمن كان يتصور السوريين والسوريات يتسولون أو يسرقون أو يبتزون أو يرتكبون المعاصي، من أجل تأمين سبل العيش! وأمام هذا كله كادوا أن ينسوا أن ثورتهم انطلقت لتأمين أمور أخرى، أقلها الكرامة والحرية والديمقراطية، بينما نسي العالم مأساة السوريين.

وتجاهلت شعوبه وحكوماتها كل هذا، وأخذت تناقش الضربة العسكرية وحجمها ونتائجها وتأثيرها على المنطقة والعالم، وغدا يحق للسوريين القول للعالم: لم يبق لنا منكم إلا قعقعة الصوت.. ولقد أعيانا يا أحبابي رش السكر فوق الموت..

 

Email