ازدهار التدين في البلدان العلمانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أكثر المفاهيم التي حاربتها جماعات الإسلام السياسي، مفهوم العلمانية التي شوهت على أيديهم عمداً لكي تعني الإلحاد، وبالتالي لينطبق ذلك على الدولة العلمانية لتعني الدولة اللادينية. وهو تشويه متعمد قصد منه القفز على فكرة المواطنة، وعلى الخلط بين الدولة كجهاز حاكم، وبين المجتمع كوعاء يعيش في إطاره شتى الجماعات والأفراد، بمشاربهم الدينية والمذهبية المختلفة وبخلفياتهم العرقية المتباينة.

ورسمت صورة قاتمة لدور الدين في المجتمع الذي يتبنى العلمانية أو نظام "فصل الدين عن الدولة"، وتضرب أمثلة كثيرة عن المجتمعات الغربية، وكيف أن الانحلال الخلقي قد دب في أوصالها، وأن الشعور الديني قد محي من نفوس أبنائها.

وليسمح لي القراء الكرام بأن أروي لهم تجربتي الخاصة، قبل عرض بعض الحقائق الموضوعية المأخوذة من مصادر موثقة. فقد تلقيت تعليمي العالي في الولايات المتحدة الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي.

، وحينما وصلتها، كانت بقايا آثار ثورة الشباب التي اندلعت في الستينيات ما زالت موجودة. ولعل أول ما لاحظته ذلك التسامح الديني الذي يتحلى به الأميركيون، فلا أحد ينغص عليك حياتك ويتدخل في شأن عبادتك وعلاقتك بخالقك.

ولذلك، كثرت دور العبادة عندهم على أنواعها، ليس تلك التي يدين بها أبناء البلد الأصليون وهي الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية فحسب، بل وحتى دور عبادة أهل الديانات الأخرى من قبيل الكنيس لليهود، ومعابد الهندوس والبوذيين، والمساجد أو المصليات الصغيرة. ورغم كره الشعب الأميركي لها، تنتشر المحافل الماسونية، وما يخطر أو لا يخطر على بال المرء من دور عبادة لعقائد ومذاهب وفرق متنوعة.

نزعة التسامح الديني تلك متأصلة في الشعب الأميركي، ليس فقط لأن دستوره ينص على حرية العقيدة أي عقيدة بل أيضاً بسبب تاريخ نشأة هذه الأمة وظروف تكوينها، إذ إن أميركا كانت ملاذاً للفرق البروتستانتية التي عانت من الاضطهاد الديني في أوروبا،.

بعد انشقاق الكنيسة الكاثوليكية وظهور الراهب الألماني مارتن لوثر في العام 1517 بمذهبه الجديد، وهو المذهب البروتستانتي والذي معناه الدين القويم. وقد انشق هذا المذهب إلى فرق متعددة، كانت الأرض الأميركية ملاذا لها وساحة رحبة لانتشارها.

ومن آيات التسامح التي تلمستها شخصياً في تلك المدينة التي درست فيها، وهي إيست لانسنغ في ولاية متشغن، ذلك المسجد الواقع على شارع هاريسون المحاذي للجامعة، والذي بناه بعض المحسنين الكويتيين في تلك الفترة. فهؤلاء لم يجدوا مساحة أرض قريبة من الجامعة لبناء المسجد ومواقف السيارات التابعة له، كما تشترط البلدية، فما كان من أصحاب الكنيسة القائمة على ذلك الشارع.

إلا أن سمحوا للمسلمين بأن يستخدموا مواقف السيارات التابعة لكنيستهم، وليصبح المسجد والكنيسة صفاً بصف. وأتساءل: ترى، في أي البلاد العربية والإسلامية يمكننا أن نرى هذا المقدار من التسامح الديني؟!

وإذا كان النظام العلماني قد أرسى دعائم قوية للتسامح الديني، فإنه أيضاً لم يقوض الدين في نفوس الناس. فشعب الهند الذي يستظل بحكومة علمانية، هو من أشد الشعوب محافظة على التمسك بشعائر الأديان التي ينتمي إليها مواطنوه، والأتراك في ظل نظام علماني، انتخبوا حكومة ذات توجه ديني.

ويشير مسح القيم الدينية للعام 2001، إلى أن نسبة الأميركيين المسيحيين المؤدين للشعائر الدينية قد زادت من 43% في العام 1981 إلى 46% في 2001. أما في دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي سابقاً، فإنه رغم بقاء أنظمتها علمانية، فإن تدين أهلها لم يتأثر مطلقاً، بل ازداد، وذلك بفعل عملية الإحياء الديني التي شهدتها تلك الأمم.

نقول هذا الكلام ونحن نرى التمزق المذهبي والديني الذي يعانيه كثير من أقطارنا العربية والإسلامية، حيث يتقاتل أبناء البلد الواحد، أو في أفضل الأحوال يتخاصمون، ويكون امتزاج العقائد بالسياسة أساساً لتنابذهم وشقاقهم.

فلنجعل للدين مكانا، وللسياسة مكانا، ولنحفظ أوطاننا من الفتن والشقاق وشرور الفرقة والاختلاف.

 

Email