الصفقة الأساسية الكامنة في أميركا

ت + ت - الحجم الطبيعي

معاودة الكونغرس الأميركي عقد جلساته، تعني المزيد من المعارك حول الضرائب والإنفاق والضوابط وشبكات الضمان الاجتماعي، وكيف يمكن دفع الاقتصاد الأميركي قدما. وهذا كله يعني المزيد من الصدامات والمواجهات المستمرة، حول القرارات المتعلقة بالميزانية وسقف الدين.

ولكن قبل أن تبدأ الاشتباكات مجددا، وقبل أن نضل الطريق جميعا في الاستراتيجيات السياسية والتكتيكات الصغيرة، من المفيد النظر في ما يتعرض للخطر حقا بالنسبة لاقتصادنا وديمقراطيتنا.

على امتداد جانب كبير من القرن الماضي، كانت الصفقة الأساسية في قلب أميركا، هي أن القائمين بالتشغيل كانوا يدفعون لعمالهم ما يكفي لشراء ما يقوم المنتجون الأميركيون ببيعه، وكان دور الحكومة هو تشجيع هذه الصفقة وفردها.

وبهذا فقد أوجدنا دائرة حميدة من مستويات المعيشة الأعلى، والمزيد من الوظائف والأجور الأفضل. ولكن هذه الصفقة تحطمت، وإلى أن تعاد صياغتها فإن الاقتصاد لا يمكن إصلاحه، وديمقراطيته لن تستجيب للأغلبية.

أولا، دعنا نبادر إلى الاستعانة بالقليل من التاريخ، ففي عام 1914 أعلن هنري فورد أنه يدفع لعماله المشتغلين على خط التجميع 5 دولارات في اليوم، أي ثلاثة أضعاف ما كان العامل في المصنع المتوسط يتلقاه في ذلك الوقت.

وصفت صحيفة "وول ستريت جورنال" هذا التصرف بأنه "جريمة اقتصادية". ولكن فورد كان يعلم أن تلك نقلة بارعة في عالم الأعمال، فالأجر الأعلى للعمال في مصانع فورد يتيح لهم شراء سياراته من النموذج تي، وفي غضون سنتين وصلت أرباح فورد إلى أكثر من الضعف.

غير أنه في السنوات المفضية إلى الكساد الكبير في 1929، نسي القائمون بالتشغيل نموذج هنري فورد، وكانت أجور معظم العمال الأميركيين قد هيمن عليها الركود، حتى فيما كان الاقتصاد الأميركي يواصل الانطلاق.

ومضت المكاسب بصورة رئيسية إلى أرباح الشركات، وإلى جيوب فاحشي الثراء، وحققت العائلات الأميركية أعلى مستوى معيشي بالإيغال في الدين، وقامر الأثرياء بمكاسبهم الهائلة.. وفي عام 1929 انفجرت فقاعة الدين.

هل يبدو هذا مألوفا؟ ينبغي أن يكون كذلك، فالشيء نفسه حدث في السنوات المفضية إلى انهيار عام 2008، والدرس ينبغي أن يكون واضحا. فالاقتصاد عندما يكون بالغ الارتباك، ويفيد بشكل غير متوازن ملاك الشركات وكبار المسؤولين التنفيذيين، وليس العمال المتوسطين، فإنه ينهار.

والاقتصاد لا يزال في هذه الوضعية ذاتها، ونحن نخرج ببطء من أعماق أسوأ انهيار منذ الكساد الكبير، ولكن ما من شيء تغير بشكل جذري. فأرباح الشركات تزيد، في المقام الأول لأن جداول الرواتب تنخفض. وحتى شركة فورد للسيارات، تدفع الآن للعاملين الجدد فيها نصف ما كانت تدفعه للعاملين الجدد قبل سنوات قلائل.

وعلى امتداد تاريخ الاقتصاد الأميركي، فإن أجر العاملين الآن هو أصغر نصيب منذ بدأت الحكومة الأميركية جمع معلومات الرواتب والأجور قبل 60 عاما، وتشكل أرباح الشركات أكبر نصيب في الاقتصاد منذ ذلك الحين.

 هذه لعبة خاسرة بالنسبة للشركات في المدى الطويل، فبدون عدد كاف من المستهلكين فإن أيام أرباحها معدودة، والأوروبيون ليسوا في مناخ نفسي يدفعهم للشراء، والهند والصين يعانيان من التباطؤ الاقتصادي بصورة دراماتيكية، والدول النامية تعاني من المشكلات. يزعم الجمهوريون أن الأثرياء والشركات الكبيرة هم الذين يوفرون الوظائف، وبالتالي فإن الضرائب المفروضة عليهم ينبغي ألا تزيد.

وهذا ليس صحيحا بالمرة، فالشركات تحتاج إلى عملاء لكي توجد الوظائف، ولكن الأثرياء لا ينفقون إلا جزءا محدودا مما يكسبون، وهم يستثمرون معظم مكاسبهم في أي مكان من العالم يحصلون فيه على أعلى عائد ممكن.

ومن يوجدون الوظائف هم في حقيقة الأمر الطبقة المتوسطة التي يدفع إنفاقها الاقتصاد قدما ويوجد الوظائف، ولكن بما أن نصيب الطبقة الوسطى من إجمالي الدخل يواصل الانخفاض، فإنها لا يمكنها أن تنفق على نحو ما كانت تفعله في السابق، وكذلك لا يستطيع معظم الأميركيين الاقتراض كما كانوا يفعلون قبل انهيار 2008..

وهو اقتراض يخفي بشكل مؤقت قوتهم الشرائية المتراجعة. ونتيجة لذلك، فإن الشركات لا تزال مترددة في تشغيل العاملين ودفع أجور جيدة، وهذا هو السبب في أن الانتعاش لا يزال محدودا على هذه الشاكلة.

كل هذا يواصل اعتصار الميزانيات العامة والحكومة الفاسدة ويقوض الديمقراطيات. والقضية ليست ولم تكن أبدا حجم حكومتنا، وإنما هي من الذي تعمل من أجله هذه الحكومة، حيث أصبحت أقل استجابة لاحتياجات معظم الأميركيين وأكثر استجابة لمطالب ذوي المصالح المالية!

واستجاب الجمهوريين هي في اتجاه تقليل الضرائب على الأغنياء، وتقليص ميزانيات البرامج المخصصة للفقراء، ومحاربة النقابات، والسماح لمتوسط الأجر بمواصلة الانخفاض. والأمر لا يقتضي الكثير من التفكير لكي نفهم أن هذه الاستراتيجية ستقود إلى اقتصاد أكثر انحرافا، وثروة أكثر تركزا على ديمقراطية أكثر فسادا.

والطريقة الوحيدة للعودة إلى اقتصاد صحي، تكون عبر اقتصاد منتج يتم تقاسم أرباحه في نطاق أعرض.. والطريقة الوحيدة للعودة إلى ديمقراطية تضمن الاستجابة، هي عبر نظام سياسي يتم بشكل أكثر كفاءة في إطار كبح جماح المصالح المالية.. لا بد لنا من إعادة صياغة الصفقة الأساسية الكامنة في قلب أميركا.

 

Email