وسائل الإعلام وفوضى التغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

قديماً قيل: قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت. تغيرت هذه المقولة وتبدلت كثيراً إلى: قل لي لمن تصغي أقل لك من أنت. تنتشر وسائل الإعلام العصرية في كل مكان؛ منها كبير ومتوسط وصغير الحجم. كبير الحجم قد يغطي مساحةً عامةً واسعةً، والمتوسط مساحة بيت وصالةً صغيرةً.

الصغير في الحجم قد يلبي حاجة شخص واحد، في حله وترحاله. على مدار الساعة هنالك وسيلة إعلامية جاهزة؛ بكبسة زر أو لمسة شاشة يستطيع شخص تصفّح آخر نقطة في الكون المتاح، ليعرف منها ما يجري حول العالم.

أكثر وسائل الإعلام نفاذاً للأشخاص والجماعات هي شبكة المعلومات الدولية، الإنترنت. فيها اليوتيوب والفيسبوك وتويتر والبريد الإلكتروني الشخصي. هذه الوسيلة العامة سهل الوصول إليها ورخيصة، وتتمتع بحرية غير عادية في عرض المعلومات.

ما يخضع لرقابة الدولة والشارع والذوق العام، يُستثنى من ذلك في شبكة الإنترنت. المعلومات المقدَّمة في الشبكة، تخوض في الصغيرة والكبيرة والمحظورة والمسموح بها. تقريباً هي أكثر وسائل إيصال المعلومات إثارةً للجدل والنقاش والخلافات والتوتر بين الكتل البشرية، والأفراد والجماعات.

تلي ذلك الفضائيات المحلية والدولية. هذه تتفنن في عرض الصورة والأخبار والتحليل السياسي، والنقدي المقارَن. تتبع أنماطاً وألواناً وأذواقاً محسوبةً على اتجاه فكري أو سياسي أو ثقافي مميِّز لها. تكاد لا توجد وسيلة إعلامية أو فضائية واحدة تستطيع أن تهرب من الانحياز أو التعصب لجهة، أو فئة دون أخرى.

بات على المشاهد أن يمر على عدد لا حصر له من مصادر الإعلام، قبل أن يلمس شيئاً من الحقيقة بعقله وخياله، دون حواسه الأخرى. يظل هنالك أمل في الفضائيات التي تقدّم الآراء المتضادة، للمقارنة ومعرفة الحقيقة عن كثب أكبر.

الشعوب العربية خرجت للتو من عهود حكم الدكتاتوريات العسكرية. الرأي الآخر غير محترَم بما فيه الكفاية. الشعوب حساسة تجاه الآراء المختلفة التي باتت تظهر في المكان والأجواء، بحرية أكبر بكثير من ذي قبل.

يقود ذلك إلى حصول استقطاب أو تكتلات على شكل جزر سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو ثقافية أو فئوية، تنتج عنها تيارات سياسية وفكرية وعقائدية، تضاهي ويناطح بعضها البعض. هذه تحتاج للمزيد من الوقت والصبر والتعقل معها، حتى تستقر على نفسها وتهدأ، وتتوخى الإيجابية البنّاءة لخدمة مسار التغيير والشعب والوطن.

يميل البعض إلى وقف هذه النزعة أو المنهجية، عن طريق التدخل الأمني الفظ والعنيف. تحدث مواجهات عنيفة بين المحتجين والمتظاهرين من جهة، وقوى الأمن وحفظ النظام من جهة أخرى. تُستغل الأحداث لصالح فئة دون أخرى، وقد تتصاعد الأمور في اتجاه المواجهة الشاملة.

تحدث فتن وانتفاضات وثورات، وثورات مضادة. تبقى المجتمعات في حالة ثوران دائم، يخمد أحياناً ويثور أحياناً أخرى. تستمر أجزاء من الشعوب في حالة من الكر والفر، والهجوم وصد الهجوم. قد يستدعي ذلك الوضع قوى خارجية للتدخل، للوصول إلى حلول، مرحلياً قد ترضي طرفاً دون الآخر.

قادة ربيع التغيير، المخضرمون والجدد، بحاجة إلى إدراك حقيقة مفادها أن الديمقراطية الجديدة لها منهجية جديدة. تعتمد هذه على إعطاء كل الأصوات نفس القدر والمقدار من الاحترام والثقل. قمة الحكم في الديمقراطية الجديدة يجب أن تسعى لخدمة الفرد في المجتمع، مهما يكن مستواه وخلفيته الاجتماعية والفكرية والعلمية والمهنية والفئوية.

لا يوجد مصطلح اسمه الفلول، أو الطلائع، أو الأمجاد، أو البائدون، أو المحترمون أو المحقَّرون؛ الكل سواسية كأسنان المشط. على الحكم الجديد أن يمسح من الذاكرة، الفروق المعتمدة على الرواسب الفكرية والسياسية والعقائدية والعنصرية، البائدة والمستجدة!

العهد الجديد عهد للجميع، قد يستلهم من نهج النبي الكريم بعد فتح مكة حين خاطب أهلها قائلاً: يا قومُ، ماذا تظنّونَ أني فاعلٌ بكُم؟! قالوا: خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ. قالَ: اذهبوا، فأنتم الطلقاءُ.

 

Email