الاغتيالات ولعبة تغيير التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثلاث سنوات فوق المائة تفرق ما بين أول جريمة اغتيال سياسي جرت في مصر الحديثة، ومحاولة اغتيال اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية. وحادث وزير الداخلية لن يكون الأخير، بل مجرد رقم في ملف طويل متخم بالوقائع الصاخبة.

والاغتيال السياسي عموما هو نوع من التدخل العنيف في مسار التاريخ في محاولة لتغييره، ومرتكبوه يتصورون أن اختفاء أشخاص من مسرح الأحداث، سوف يعدل مسارها ويُسهل لهم التحكم فيها..

 وهي فكرة أقرب إلى الفانتازيا منها إلى الواقع، وقد صنعت السينما الأميركية عشرات الأفلام عن "تعديل مسار التاريخ"، كان آخرها للمخرج ذائع الصيت روبرت زيميكس في ثلاثيته "العودة إلى المستقبل"، خاصة الجزء الثاني، وفيه يسافر البطل في الزمن إلى المستقبل، وحين يرجع لزمنه يجده قد تغير تماماً وأن والده قد اغتيل، وأمه تزوجت عدوه الذي توحش وسيطر على المدينة!

وقطعا حين ارتكب قابيل أول جريمة اغتيال في العالم، لم يغير من الواقع شيئا، وإنما حل عليه غضب الله.

ولا يذكر التاريخ جريمة اغتيال رست على شاطئ الأهداف الخفية فيها غير سفك دماء الضحية، فلا اغتيال يوليوس قيصر عدل مسار الإمبراطورية الرومانية على النحو الذي سعى إليه المتآمرون، ولا قتل الرئيس الأميركي جون كينيدي أعاد ترتيب أوراق الحرب الباردة أو جماعات الضغط في واشنطن.

والشرق عموما له تاريخ طويل في الاغتيالات السياسية، نظرا لقدمه وعراقته، وليس لعناصر موروثة فيه أو جينات مكتسبة.

فالغرب أيضا له تاريخ ممتد لا يقل دموية، وقد وقعت فيه جريمة اغتيال سياسي سببت حربا عالمية، راح ضحيتها ما يقرب من 20 مليون إنسان، هي الحرب العالمية الأولى، حين اغتال شاب صربي متطرف "جافريلو برينسيب" من تنظيم الأيدي السوداء، ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند وزوجته، في 28 يونيو سنة 1914 خلال زيارته لسراييفو.

ولم يحقق الشاب الصربي المهووس ولا جماعته الإرهابية شيئا مما أرادوا، فلا صربيا تخلصت من النفوذ الأجنبي وكان نمساويا مجريا، وإنما استبدلت به فقط نفوذا روسيا، ولا تحررت من فقرها. لكن أوروبا أعيد تشكيلها، وسقطت الأرستقراطيات القديمة، وراحت الأفكار الشيوعية والاشتراكية تشق جسرا قويا تنتقل عليه من الحصار الفكري إلى الوجود الفعلي!

وإذا اخترنا مصر من الشرق، سنجد أن أول جريمة اغتيال سياسي في عصرها الحديث، كانت نوعا من الانتقام وإشفاء الغليل، ووقعت في 20 فبراير 1910، حين فوجئ الجميع بشاب يدعي إبراهيم ناصف الورداني يطلق الرصاص على بطرس غالي باشا، وأصابه بإصابة قاتلة نقل بعدها فورا إلى المستشفى لإسعافه، وبادر الخديوي عباس حلمي الثاني بزيارته للاطمئنان عليه، إلا أنه مات متأثرا بجراحه.

واعترف الورداني بأنه القاتل وحده دون شريك، ولما سأله رئيس النيابة عن سبب القتل، أجاب على الفور "لأنه خائن للوطن، وجزاء الخائن البتر". وأحيل الورداني في يوم السبت 2 إبريل 1910 إلى محكمة الجنايات، التي قضت بإعدامه ونفذ الحكم في 28 يونيو 1910.

وكان بطرس غالي قد رأس محكمة دنشواي، وقضت بالإعدام شنقا لأربعة من الفلاحين المصريين، وبالأشغال الشاقة مددا مختلفة لعدد آخر، وبالجلد خمسين جلدة على آخرين، وتم تنفيذ الأحكام بعد محاكمة استمرت ثلاثة أيام فقط وأمام الأهالي، عقابا لهم على موت ضابط إنجليزي بضربة شمس إثر مطاردة له من أهالي القرية.

وقد لا تكفي المساحة هنا لتحليل كافة جرائم الاغتيال السياسي، لكننا نلاحظ شبها وتماثلا مذهلا بين محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري قبل أيام، والاغتيال الفعلي لرئيس الوزراء ووزير الداخلية محمود فهمي النقراشي باشا في 8 ديسمبر 1948، على يد عبد المجيد حسن من جماعة الإخوان، ردا على قرار حل الجماعة وغلق مقراتها.

وكانت فترة النقراشي بمثابة "المحنة الكبرى" على الإخوان، ففي وزارته الأولى أمر باعتقال حسن البنا وأحمد السكري وعبد الحكيم عابدين، بناء على الشك في تورط جماعة الإخوان في مقتل أحمد ماهر في فبراير 1945، فالقاتل جمع بين الانتماء للحزب الوطني القديم وجماعة الإخوان أيضا.

وقد علق الكاتب الكبير محمد حسين هيكل على حادثة اغتيال النقراشي قائلا: "يرجح كثيرون أن الشاب الذي قتله هو من الإخوان المسلمين، قد تأثر بما بين النقراشي باشا وجماعة الإخوان المسلمين من خصومه.

فقد كان النقراشي باشا مقتنعا بأن حوادث القنابل والمتفجرات يرتكبها شبان من المنتمين للإخوان، وقد بلغ اقتناعه ذاك حد اليقين فاستصدر قرارا بحل الجماعة ومصادرة أموالها، فكان ذلك إعلانًا للحرب بينه وبينها، وهذا هو السبب في ترجيح بعضهم هذا الدافع لقتله".

وقد قال المرشد العام الأسبق مأمون الهضيبي، في ندوة بمعرض القاهرة للكتاب عام 1992: إن أعمال التنظيم الخاص هي للتقرب إلى الله.

والتنظيم الخاص هو تنظيم سري مسلح ينفذ عمليات الاغتيال.. ولن تكون محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري هي الأخيرة، وأيضا لن تغير التاريخ!

 

Email