العرب والديمقراطية

ت + ت - الحجم الطبيعي

صناديق الاقتراع ليست هي كل الديمقراطية، بل هي واحدة من وسائلها للوصول إلى السلطة.. والديمقراطية التي عرفها الإنسان عبر تاريخ طويل فكرا وممارسات، هي أشياء أخرى من المفترض أن يؤمن بها كل المواطنين في مثل هذا العصر المتقدم.

الديمقراطية ليست سهلة كما يتخيلها الناس في مجتمعاتنا، إنها عملية مؤسسية وأخلاقية مدنية، لا يقتصر استخدامها على الوصول إلى السلطة فحسب، بل هي أساليب تعامل وتعبير تاريخي يترجم العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، أي بين المؤسسات الرسمية والإنسان في أي مجتمع، وبين الحاكم والمحكوم.. وبين المواطنين أنفسهم.. ويكون الدستور والقانون المرجع الأساسي الذي يحتكم إليه الجميع.

إذا كانت "الديمقراطية" قد استخدمت سياسيا من قبل الأحزاب السياسية، فهي في الأصل منهج تفكير وحياة اجتماعية، يتربى الإنسان على أساليبها المتنوعة في كل مجالات الحياة..

وعليه، إن لم تسقط حكومات وسلطات في مجتمعات ديمقراطية حقيقية، فإن وزارات ورئاسات وحكومات تسقط في نظم فوضوية ومجتمعات رعوية ومنظومات سياسية، لم تعرف الديمقراطية يوما في حياتها، بدءا بتعامل الأفراد مع بعضهم وانتهاء بتعامل المجتمعات مع صناديق الانتخاب.

ولقد أكدّ العديد من المفكرين والمنظرين السياسيين في العالم، أن لا ديمقراطية تبدأ وتتطور في ظل أوضاع فوضوية أو رعوية أو إقطاعية أو طائفية مهترئة.. الخ.

ولقد أكد فوكو ياما مؤخرا، أن "الديمقراطية" لا يمكنها أن تنمو وتتطور إلا مع توفر ثلاثة عوامل أساسية: الاستقرار السياسي، والنمو الاقتصادي، والتنمية الاجتماعية لدى أي مجتمع ليؤهل مؤسساته في الدولة التي تنبثق عنه، كي تكون الدولة في خدمة مجتمعها، لا ان تغدو متسلطة عليه ليكون في خدمتها!

إن الديمقراطية بأوسع أبوابها، لا يؤمن بها أبدا من تتفوق أجندتهم العقائدية والعنصرية والسياسية المؤدلجة على مبادئهم الوطنية! وكما قال لي صاحبي فإن جميع من حمل الديمقراطية في القرن العشرين، لم يعرفوها على حقيقتها ولم يمارسوها، وإنما حملوا شعار الديمقراطية من أجل الوصول إلى السلطة! إن العربة التي أوصلت العديد من المسؤولين العرب إلى سدة الحكم، لم يكن يجرها حصان وطني ولا حتى عربي، بل اندفعت إلى الذروة بفعل فاعل، في ظل أوضاع مأساوية سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، سيئة ومنهارة جدا.

إن المسؤولين الجدد وهم في السلطة، لم يفكروا في كيفية الوصول إليها عندما كانوا يحلمون بها، وقد أقنعوا أنفسهم بأنها من صناعة شعوبهم أو أنهم تسيدوا بأصوات من انتخبهم.. وحتى إن افترضنا صحة ما يتوهمون، فهل من الصواب أن يرتكبوا أخطاء شنيعة في أوطانهم ومع شعوبهم أو يكونوا صنائع وأدوات لأجندة غيرهم؟! إن مشكلتنا الأساسية اليوم تتمثل في الانقسام الحاصل بين أجندة سياسية وإيديولوجية معينة، إزاء ثوابت وطنية وركائز مبدئية ومسائل تاريخية.. إنها تبدو مجتمعات رعوية متشظيّة، يرعاها ساسة ومتحزبون وطغاة وصناع مصائب، يتباهون بالديمقراطية زيفا وكذبا!

نعم، إن مجتمعاتنا منقسمة جدا وأصبحت تصارع الطغاة القساة من طرف، وتصارع الجماعات والأحزاب البليدة الجديدة، التي جاءت إلى السلطة باسم "الديمقراطية" لصالح الفئات الرعوية..

ورغم انتفاء الشرعية، كون مجتمعاتنا ليست ديمقراطية، فثمة من يتقبل حكم الأغبياء أو الفاسدين أو الطائفيين، الذين يتسترون بتجارب انتخابات مضحكة، لم يشارك فيها العقلاء الذين يدركون فجاجتها وزيفها وكذبها في مجتمعات متخلفة.. وإذا حدثت مضاعفات بالضد يتشدقون بنتائج التصويت لأي صندوق انتخابي ويدافعون عن الشرعية!

لقد ثبت جليا أن كل الأحزاب الطائفية أو العقائدية، سواء كانت راديكالية أم ليبرالية أم قومية، لا تؤمن بالديمقراطية، فكيف تمارس الانتخابات إذن؟ إنهم لا يدافعون عن الديمقراطية والشرعية، ولكنهم قد غرقوا في التعصب والانحياز لأنفسهم من أجل السلطة..

فهناك كبت محموم نحو السلطة دام لعشرات السنين عند هؤلاء، ومئات السنين عند أولئك.. ويتحول الزعيم المنتخب أو الجماعة أو الحزب أو الطائفة الحاكمة، إلى ما يشبه الدكتاتور! إن ثلاثين سنة تنتظرنا، ستمر فيها مجتمعاتنا بمخاض تاريخي صعب.. المشكلة ليست هينة تخص هذا أو ذاك، بل الأمر يخص منظومات خطيرة..

إن من حق مجتمعاتنا أن تدافع عن الديمقراطية من أجل تكاملها، ولكن من الخطأ تصور القيم إمكانية ذلك، من دون الاعتراف بالحريات العامة والفكرية والشخصية. الديمقراطية فلسفة حياة كاملة، وليست مجرد صناديق اقتراع. وعليه لا يمكن لأي طرف يؤمن بإيديولوجية دينية، أو مانيفيستو شيوعي، أو عقيدة قومية، أو لوائح ليبرالية.. أن يمارس الديمقراطية الحقيقية. ما أحوج مجتمعاتنا اليوم للديمقراطية، ولكن عليها فهمها والوعي بها وليس مجرد صندوق انتخابي، فالديمقراطية فلسفة حياة وأسلوب عمل، ضمن مشروع مدني وطني متكامل.

 

Email