وحدة اللبنانيين تمنع الفتن المذهبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أسبوع واحد على تفجير منطقة الرويس في ضاحية بيروت الجنوبية، الذي ذهب ضحيته عدد كبير من الشهداء والجرحى ودمر عشرات الوحدات السكنية والمحال التجارية، تعرضت مدينة طرابلس لتفجيرين إرهابيين ضربا مسجد التقوى ومسجد السلام.

فخلال شهر أغسطس 2013، سالت دماء كثيرة وسقط 27 شهيدا وأكثر من 500 جريح في ضاحية بيروت الجنوبية. وبعد أسبوع سقط أكثر من ستين شهيدا و920 جريحا في مدينة طرابلس التي تعتبر عاصمة لبنان الثانية.

تولدت قناعة فورية لدى غالبية اللبنانيين، بأن منفذ الجريمتين واحد. وقد ضرب منطقة سكنية شيعية في ضاحية بيروت الجنوبية، تعتبر معقلا لحزب الله الذي يشكل حليفا أساسيا للنظام السوري على المستويين السياسي والعسكري.

لكن رد فعل سكان الضاحية كان عقلانيا للغاية، فلم يتهموا أي طرف لبناني، بل دفنوا شهداءهم وداووا جرحاهم، وانصرفوا إلى إعادة إعمار بيوتهم. وبعد أسبوع فقط استهدف المجرمون مسجدين كبيرين في مدينة طرابلس، التي تعتبر قلعة السكان السنة حيث أكثرهم من المناصرين للمعارضة التي تعمل على إسقاط النظام السوري.

كان الهدف إذن إشعال فتنة مذهبية كبيرة بين السنة والشيعة في لبنان، لكن القيادات الحكيمة لدى الطائفتين وجهت أصابع الاتهام إلى مجموعات تكفيرية تقاتل النظام السوري، وتلقى دعما ماليا وعسكريا من الخارج.

ورغم الخسائر البشرية الكبيرة والدمار الواسع في الضاحية وطرابلس، أدرك رجال الدين والسياسة وعامة اللبنانيين، أن هدف التفجيرين هو ارتكاب جرائم مروعة تحمل بصمات قوى إجرامية تعمل على تدمير لبنان.

ودلت التحقيقات الأمنية خلال الفترة القصيرة الممتدة بين التفجيرين، على تحضير عدد من السيارات المفخخة لتفجيرها في مناطق لبنانية متفرقة، فتطول جميع الطوائف والمناطق اللبنانية. لكن ردود الفعل الشعبية على التفجيرين كانت رائعة من جانب أهالي الضحايا الذين تمسكوا بالوحدة الوطنية، وعملوا على تعزيز أواصر الأخوة بين اللبنانيين على اختلاف طوائفهم.

فقد توالت الوفود المعزية بالشهداء من جميع الطوائف والمناطق اللبنانية، وارتقى الخطاب السياسي والأداء الشعبي إلى مرتبة متقدمة، دفاعا عن وحدة لبنان واللبنانيين، ونبذاً للغرائز المذهبية، وللتنديد برجال السياسة العاجزين عن تحمل مسؤولياتهم.

لقد تبلورت مواقف وطنية متميزة لدى اللبنانيين في مواجهة تلك التفجيرات، أبرزها:

أولا؛ ركز الجميع على المعاناة الإنسانية التي خلفتها التفجيرات، وأكدوا رفضهم القاطع لأهداف المجرمين بالانجرار إلى الفتن المذهبية. فلدى اللبنانيين تراث حافل من الرقي الإنساني والممارسة الوطنية الواعية، والتمسك بنظام القيم الأخلاقية والتضامن الرائع في النكبات الكبيرة. ورغم حياة الفقر والحرمان التي تعيشها قطاعات واسعة من سكان المناطق التي تعرضت للتفجير، لم يندفعوا إلى ممارسة العنف أو التعدي على الآخرين وأملاكهم، بل تعاونوا جميعا في إطار الاحتضان الوطني الشامل الذي عبرت عنه قطاعات واسعة من الرأي العام اللبناني.

ثانيا؛ حمل وفد من أهالي شهداء وجرحى متفجرة بيروت، الزهور إلى ضحايا مجزرتي طرابلس. فقدموا نموذجا رائدا يعبر عن وعي اللبنانيين بمخاطر الفتنة المذهبية، والعمل على وأدها في المهد. وأبرزت ردود الفعل العقلانية،أن اللبنانيين جميعا يرفضون الفتن المذهبية، كما يرفضون الأمن الذاتي والمربعات الأمنية المحمية. وهم متمسكون جميعا بالدولة اللبنانية، وبسلاحها الشرعي دون سواه.

ثالثا؛ لم تعد بيانات الاستنكار والمواعظ السياسية التي ترافق كل انفجار أمني، تثير اهتمام اللبنانيين. فعلى المسؤولين، من سياسيين وأمنيين ورجال دين وفاعليات اقتصادية وثقافية ونقابية، أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة في حماية استقلال لبنان وأمنه واستقراره. وعلى جميع الأجهزة الأمنية فيه التعاون وبذل كل الجهود، لطمأنة اللبنانيين على أرواحهم ومصير وطنهم.

رابعا؛ ندد رؤساء الطوائف في لبنان أثناء زياراتهم إلى الجرحى في المستشفيات، بالتفجيرات الإرهابية، وطالبوا بحوار وطني مسؤول، وبتشكيل حكومة جديدة قادرة على إدارة الأزمة، والتجاوب مع صرخة الهيئات الاقتصادية والنقابية، لإيجاد حلول عملية للأزمات الكبيرة التي يعيشها لبنان منذ أشهر طويلة، في ظروف إقليمية ودولية بالغة الخطورة.

وشددوا على أن اللبنانيين عائلة واحدة، وأن من واجب الجميع تقديم العزاء لأهلنا في بيروت الجنوبية وفي طرابلس، لنقول لهم: جرحكم هو جرحنا ومصيبتكم هي مصيبتنا، وما يصيب أي لبناني يصيب جميع اللبنانيين.

 وطالبوا بوقف النزاعات الداخلية، وترسيخ وحدة الشعب اللبناني على ثوابت وطنية تحمي لبنان وتحد من المخاطر الأمنية، فحماية العيش المشترك صمام الأمان للبنانيين. وأكد بعضهم أن من وضع متفجرة بيروت هو نفسه المسؤول عن تفجير المسجدين في طرابلس، لأن المخطط واحد وهدفه إشعال الفتنة الطائفية والمذهبية.

نخلص إلى القول إن عددا كبيرا من المسؤولين الدينيين والسياسيين والأمنيين، قد نبه إلى الأهداف الفتنوية للمتفجرات، دون الوقوف عند إدانة الأيدي التي حملتها فقط.

فهناك قوى إقليمية ودولية تصر على تفجير لبنان لضمان أمن إسرائيل، ومن فجر المسجدين لا يتورع عن تفجير أي شيء، لأنه لا يقيم وزنا للقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، وهدفه إشعال نار الفتن الطائفية عل امتداد المنطقة العربية، لتفكيكها وإقامة نظام الشرق الأوسط الجديد، برعاية أميركية وصهيونية بالدرجة الأولى.

ختاما، رغم كثرة التفجيرات المتنقلة، تمسك اللبنانيون بوحدتهم الوطنية، لأنها كفيلة بإفشال المؤامرة ومنع الفتن الطائفية في لبنان. وهم على قناعة تامة بأن خطورة تلك الانفجارات تكمن في ضعف النظام السياسي اللبناني، بسبب التحريض المذهبي الداعي إلى الفتنة.

كما أن الأوضاع المتفجرة في لبنان، على صلة وثيقة بمخططات خارجية هي الآن قيد التنفيذ العملي لخدمة إسرائيل. وهي تشكل تهديدا حقيقيا للمنطقة العربية بأكملها، لأنها تحرم دولها وشعوبها من الأمن والاستقرار لعقود طويلة.

Email