فيتنام والتطلع نحو المستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يلف الغموض هذا الجزء من العالم الذي تقع فيه فيتنام، ففي الشرق الأوسط وأفريقيا وروسيا وأجزاء من أوروبا والولايات المتحدة، نهض الألوف من المواطنين الغاضبين يتحدون حكوماتهم على امتداد العامين الماضيين، وبالطبع في الكثير من الحالات، أطاحوا بالطغاة وأبعدوهم عن سدة الحكم.

ولكن في آسيا، موطن بعض الدول الأكثر تمسكاً بنظم دكتاتورية، لم نر شيئاً من هذا، غير أن فيتنام ربما تشق درباً ستسلكه من بعدها دوال آسيوية أخرى. فخلال الأشهر الماضية، شهدت فيتنام اعتقالات ومحاكمات لمنشقين ومدونين، لبثهم ما اعتبره ممثلو الادعاء "دعاية مناهضة للحكومة"، وهذا تطور حديث نسبياً في فيتنام.

وفي الصين وكمبوديا ودول إقليمية أخرى عديدة، نهض الناس وقاموا باحتجاجات غاضية وصاخبة، على عمليات مصادرة الأرض وفساد الحكم المحلي والتلوث، وغير ذلك من الأعمال التي تمس حياتهم بشكل مباشر، ولكننا في الآونة الأخيرة لم نر في أي مكان من آسيا احتجاجات كبيرة تتحدى شرعية الحكومات. ويقدم الخبراء الإقليميون نطاقاً عريضاً من التفسيرات لهذا التضارب، يشمل عناصر ثقافية ودينية واقتصادية.

ولا يبدو أن هناك رؤية واحدة يجمع عليها الكافة. والاندفاع المفاجئ نحو عمليات الاعتقال في فيتنام، ربما يتضح أنه ليس أكثر من قلة من المنشقين المعزولين الذين يتورطون في المتاعب لتحديهم الحكومة كنظرائهم في الصين، فالوقت لا يزال مبكراً بالنسبة للتيقن من حقيقة ذلك. ولكن فيتنام مختلفة عن جاراتها، فهي ولدت من رحم الصين، وكانت مقاطعة في جارتها الشمالية، إلى أن ظفرت باستقلالها عام 1938.

وقد اضطرت للقتال من أجل البقاء منذ ذلك الحين. واحتلت مملكة الخمير الكمبودية جنوبي فيتنام بعيد انسحاب الصين، وقد غزت بكين فيتنام 17 مرة، كانت أحدثها عام 1979، وقاتل الفرنسيون فيتنام على امتداد ستة عقود من الزمن، وأعقب ذلك احتلال ياباني للبلاد خلال الحرب العالمية الثانية، ثم جاءت حرب فيتنام.

لنتأمل المواقع التاريخية، حيث أبرز الفيتناميون تاريخهم في رسوم وأفاريز، وعندئذ سنرى محاربين يمتشقون السيوف ويطلقون السهام ويستخدمون المقاليع، ويذبحون أعداءهم المختلفين. وقد كان هذا قدر الأمة الفيتنامية على امتداد 1000 عام، الأمر الذي ساعد في تشكيل شخصيتها الوطنية.

هل يجب إذاً أن يكون أمراً مثيراً للدهشة، أن شعباً سيطرت عليه وأساءت إليه القوى الغازية والمحتلة على امتداد تاريخه، بكامله تقريباً، يضيق ذرعاً بحكومة فاسدة تواصل الإساءة إليه حتى الآن؟

تحكم قاعدة لا تتغير، تقريباً، النقاشات المنتمية إلى هذا النوع. فالتغير الاجتماعي المهم في الدول الدكتاتورية، ينشأ من النمو الاقتصادي. ومع ازدياد الازدهار لدى الناس، والسفر والتلفزيون والإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي، فإنهم يشرعون في فهم كيف يعيش باقي العالم، وما الذي يفتقرون هم إليه، وعندئذ يبدأ الناس في الشعور بعدم الرضا.

وهذا هو ما يحدث في فيتنام الآن. قم بزيارة مدينة هوشي منه (سايغون سابقاً)، ولسوف ترى عشرات المتاجر والمقاهي الغربية البارزة، وجانب كبير من نشاط أعمال التجزئة الغربي الجديد هذا، مخصص لصناعة السياحة المزدهرة إلى حد كبير، حيث يزور فيتنام سنوياً 6 ملايين سائح، ولكن هذا كله يجلب معه أيضاً الوظائف، وقدراً أكبر من الازدهار، إلى بلد يعد من أعلى بلاد العالم نسبة تعليم.

ويعد الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة هو الأعلى في المنطقة، والأمية قد محيت تماماً على وجه التقريب، ولا يزال 7 % من السكان يعيشون في الريف، حيث يزرعون الأرز، ولكن أبناء الريف من الشبان ينتقلون بمعدل 3 % سنوياً إلى المدن، وفي المقام الأول إلى سايغون، باحثين عن فرص عمل أفضل.

ومن قبيل المفارقة، أن الولايات المتحدة تعد حالياً من أفضل أصدقاء فيتنام، وهي غالباً ستظل كذلك، كثقل موازٍ لعدوها التاريخي الراهن، أي الصين. ولهذا تصادق هانوي أيضاً، اليابان وروسيا وإندونيسيا وتايوان ودولاً أخرى، وذلك في ضوء فهم أن القيام بالتحالفات، وليس بخوض الحرب، هو الطريقة الأكثر كفاءة للمضي قدماً اليوم. ومن وجهة نظري، فإن فيتنام هي بلد تتعين متابعته، وربما في يوم من الأيام الإعجاب به.

 

Email